الثائر الذي عاش بين أجنحة الموت "صالح ناصر سالم الحنشي"
بقلم: حسين السليماني الحنشي
كنت تلميذاً كمثل التلاميذ الذين يجلسون على مقاعد الدراسة، ولا أعلم بأن معلمي، كان يصول ويجول البلاد مع الثائرين والسياسيين وصناع القرار، في بلاد مليئة بالتحديات والمخاطر، فقد كان ضمن الثوار الذين دائماً يختارون العيش على حافة الموت، ويجعلون من كل لحظة تحديا جديداً. هؤلاء مثال على الشجاعة والإرادة القوية. ولا تجدها إلا في الثوار!
ويمثلها هنا، استاذي القدير والمناضل الجسور/صالح ناصر سالم الحنشي، فقد كنت أحسبه معلم كباقي المعلمين، بينما كان ثائر وكانت كلماته التي لازالت موجودة في ذهني ليست ككلمات المعلمين بل تصنع رجال يعملون في سبيل تحقيق أهداف الثورة، كنت أحب مجيئه إلى الفصل الدراسي وهو يكتب عنوان الدرس، ثم يشرح الدرس، الذي يترجمه ويبسّطه ونخرج ونحن أكثر معرفة مما كنا عليه، كان يستقطب الشباب إلى الجبهة القومية، وكأنه يمسك بجذع شجرة يهزّها فتتساقط أوراقها، فقد كان لي به لقاء في الصف السابع، وهو يدرسانا مادة التأريخ، كنا نحفظ الدرس دون مراجعته، كان يتمتع بقدرات وهبها الله له في فصاحة اللسان وتعبير البيان، كان مرافقي في كل مراحل دراستي حتى الجامعة، فلم أشهد له مثيل في الإلقاء واختيار الألفاظ والعبارات والمعاني، كان مفوّها وخطيبا...
فسلام عليك أستاذي الذي لا أعلم أنك مناضل من الدرجة الأولى، كنت أظنك معلما ملهما، ولا أعلم حين تبتسم أن خلف تلك الإبتسامة معاناة وألم شديد تعيشه...
لا أعلم أنك من القيادات الميدانية والسياسية التي تعرفها جبال وسهول الوطن طولا وعرضا...
عاش المناضل الثائر والأستاذ القدير/ صالح ناصر سالم الحنشي. حياته بكل جرأة، ولم يكن يخشى الموت أبدا. كان يرى الحياة من نافذة الإخلاص التي غابت اليوم عند الكثيرين... فلم يكن المناضل الثائر الذي وهب نفسه للوطن يهتم بالعواقب، فقد عاش بين أجنحة الموت، في بدايات الكفاح المسلح والعمليات الفدائية، وبعدها عاش مع الموت، لكن هذه المرة عاشها مع من حمل معهم السلاح وخطط معهم للعمليات الفدائية وشارك التنظيم السري اجتماعاته أنهم (رفقاء النضال) أصبحوا بين ليلة وضحاها فرقاء ذاقوه مرارة الحياة سجنا وتعذيبا...
إن الشجاعة والإرادة لابد أن تتوفر في الثائر فقد كانت عنوانه المميز بين رفقاء النضال، ولم يرض بالاستسلام، بل كان يبحث دائما عن طرق جديدة للتحدي والتغلب على الصعاب.
كنت تلميذاً في الصف الرابع أول ما عرفته كمعلم لنا في مادة اللغة العربية، كان تأثيره على التلاميذ واضحاً ، إن هذه الشخصية لم تعد محصورة في الفصول في المدرسة، بل لها تأثير كبير في المحيط الذي تعيشه، كنت أشاهد بعضها في الجانب الإجتماعي... كان أستاذنا مصدر إلهام للكثيرين، ويدفعنا لتحقيق أهدافنا والتغلب عليها.
لقد رأت النور عيون الاستاذ صالح لأول مرة في حياته، الحياة بشكلها الذي يراها كل إنسان، في قرية( عمودية) التي تقع غرب مدينة زنجبار بابين...حيث كان جار الرئيس والمناضل القومي ، (سالم ربيع علي) وقد تأثر كباقي الشباب الثائر بالقومية العربية، حيث كانت أسرته تتنقل دائما. من موطنها الأصلي (السواد، أرض آل حنش. قرية. الحاطبة. م/ الوضيع،) إلى زنجبار، كان الإستقرار لأسرته في أبين الدلتا. ..فقد صادف ميلاد أستاذنا/ صالح ناصر سالم الحنشي، عام ١٩٤٨م في تلك الفترة أو القريب منها، قامت الدولة الفضلية، تحت قيادة السلطان/ حسين بن عبدالله، سلطان آل فضل. بتوزيع أراضي في منطقة (الديو) غرب وادي بنا على القبائل الفضلية، كانت عائلة الأستاذ/ صالح ناصر سالم الحنشي، إحدى هذه العوائل المستفيدة...
أشترى أحد الأثرياء أرض بمساحة خمسين فدان، قريبة من أرضهم، وكان ذلك الرجل الثري الذي اشترى الأرض هو صومالي الجنسية ويدعى ـ الشيخ إبراهيم ـ وكان رجل يمتاز بعمل الخير، فقد حفر بئر وانتقلت عائلة الأستاذ / صالح ناصر سالم الحنشي، إلى القرب من بئر الماء التابعة للشيخ إبراهيم الصومالي الجنسية، بعدها انتقل أعمامه بجانبهم، وكان أحد أعمامه ويدعى/ الذئب بن علي، ويعتبر آنذاك من الأثرياء ، حيث يمتلك أكبر أرض زراعية في المنطقة، واليوم تعرف هذه المنطقة التي كانوا أول سكانها بمنطقة (بئر الشيخ) منسوبة إلى الشيخ إبراهيم صومالي الجنسية. هنا بدأت الحياة تتحسن الى الأفضل، في هذه الحالة من الاستقرار، استدعى السلطان والد الاستاذ/ صالح، وأعطاه منصب عسكري وصلاحيات كبيرة في منطقة (الديو) كان يطلق عليهم عسكر الدولة ولهم هيبة كبيرة تمثل الدولة. كان والد الأستاذ /صالح ، إنسان مصلح يتعاون مع الناس ويشهد له كل من عاش تلك الفترة ولم يستقل الصلاحيات المطلقه لقهر أحد... كان شقيق الاستاذ صالح الأكبر ويدعى / محمد ، قد أنضم إلى جانب والده في عسكر الدولة. ثم كان والد الأستاذ صالح رئيس شرطة مدينة (المخزن) وهذه المدينة مدينة ـ المخزن ـ تقع على الحدود بين سلطنة يافع بني قاصد والسلطنة الفضلية... ولهذا المركز مزايا خاصة. وكان والد الاستاذ /صالح ، معه إبنه الأكبر ، وعيال عمومته عسكر.
شهدت تلك الفترة نقلة نوعية في صغل الأستاذ/ صالح ، ففي تلك الأيام كان الأستاذ القدير / صالح محمد النقي المحوري...يدرس عام١٩٦٠م في مدينة (المخزن) فقد تحدث (النقي) مع رئيس الشرطة بمدينة ـ المخزن ـ وأقنعه أن يرسل إبنه وهو الاستاذ/ صالح، يدرس وتكفل (النقي) بتسجيله في الدراسة، أتى رئيس الشرطة اليوم الثاني ومعه إبنه الأستاذ/ صالح ، كان يوم الخميس عشره أيلول من عام١٩٦٠م.
فقد كان الأستاذ / صالح ، ضمن التلاميذ في الفصل الدراسي، وكلا من الفريق/فيصل رجب. الذي كان له دور كبير في إنقاذ حياته، حينما حمل رسالة من أبين الى المعسكر في شعب (العراقيل وجبل عفاريت وقرون الذئاب)
فقد أخفاء / فيصل رجب. الرسالة، بعدها قام (مسدوس) وعمل له برقية إن أبوه مريض، بعدن، كانت عدن بالنسبة للاستاذ/ صالح، تتلاطم فيها أجنحة الموت، فكانت صحبته لمسدوس حماية له حتى ألحقه بلواء عبود...
هناك استقبلته أجنحة الموت مباشرة، كان السفير والذي يطلق عليه بالسفير العظيم (الحنكي) ركن الكتيبة ومسؤولا سياسياً، ووصلوا إليه وأخبروه بقتل(موسى) وهذا اسم مستعار للأستاذ/صالح ، كما أخبره الحنكي، رفض الحنكي هذا حيث كانت تربطه بالاستاذ / صالح صداقة قوية، ذهب ـ الحنكي ـ إلى وزير الدفاع آنذاك وهو الرئيس / علي ناصر محمد. في عام، ٧٢ ١٩م واستخرج له أمر مطبوع بمنع اعتراضه، مع ترخيص بحمل السلاح، (مسدس) وتم خروجه بسلام من عدن دون أن تصيبه أجنحة الموت! ذكر الاستاذ/صالح ، هذا الصنيع للفريق/ فيصل رجب . في أكثر من مناسبة، ونشرته صحيفة عدن الغد، حيث أنقذه من الموت المحقق.
نعود إلى دراسته فقد انتقل الى المدرسة المتوسطة في زنجبار. حيث كان يدرس بها (سالمين، عبد ربه منصور، عطروش) وكثير من الكوادر...
بعد تخرجه من المتوسطة، ذهب للجيش في يوم الخميس تاريخ/١٧//٨//١٩٦٥م ، والتحق بالتدريب في( ليك لاين) في عبد القوي حاليا، بعدن.
والتحق بكتيبة. (1) في الهاون ...ثم أرسل الى دورة لاسلكي...وهناك التحق بالجبهة القومية بتنظيمها السري في الجيش بقيادة الدكتور (مسدوس) عام (١٩٦٦م) فقد كُلف ببعض الأعمال الفدائية ذكرها في مقالات سابقة بموقع صحيفة عدن الغد. تحت عنوان ، ذكريات عسكريه ساخنة، وموقع أبين الآن الالكتروني.
في ١٤/مايو/١٩٦٨م. تم حصار مدينة شقرة من الشرق. وكان ضمن تلك القوات المسلحة، واللواء السادس يحاصر أبين من الغرب. كانت تحت قيادة (سالمين) و (عادل خليفة ) و(بدر) و (مطيع) بعدها، لم يكتب لهم النصر، وهربوا الى يافع. وهنا أمر (سالمين) الجنود بالعودة ... فعاد الأستاذ /صالح، ثم أعتقل وسجن في زنزانة في البوابة الغربية.
فقد كانت عناية الله به، أن جاءه إبن عم، الاستاذ / صالح . وهو قائد عسكري كبير، معروف باسم/ مقرع.
كان شقيق الاستاذ /صالح، الأكبر والوحيد/ محمد، مع القائد (مقرع) فتوسطوا في إطلاق سراحه عند قائد القوات المسلحة حينذاك/حسين عثمان عشال، يرحمه الله، حيث كانوا من رواد حركة ٢٠ مارس. فقد تم أعدمهم ( أيام حكم سالمين) في نفس التاريخ من العام القادم وتم تصفيتهم، حيث أثبتوا عليهم هذا العلاقة بأنهم يستحقون الإعدام وفعلا تم إعدامهم....
وتم طرد الأستاذ /صالح ، من الجيش بدون حقوق، نتيجة هذه العلاقة، وهكذا كان الحكم آنذاك ينظر من نافذة واحدة.
على الرغم أننا رفقاء النضال الوطني، وتجمع بيننا أهداف الثورة والقومية..
وتم سجنه مرة أخرى من قبل الرفاق وكان أحد الجنود المكلفين بحراسته (...) كان يعامله معامله سئة جدا.
ويحدثونه ليلاً نهاراً عن الموت.
خرج من السجن، من قبل وساطة لبعض الرفاق له...
بعد ٢٢ حزيران١٩٦٩م عاد ضمن الكثيرين، ومنهم على سبيل المثال: الرائد / أحمد صالح ضالعي. والملازم / درامة، وحسين عرب، وكثيرين...
بعد إعدام إخوانه لم يطب له العيش كان يتمنى لوكان معهم، حيث زاد الحزن عنده، وخاصة حينما ينظر للعوائل، كانت قرية كاملة تندب فلذات أكبادها.
فقد كانت عيشت الاستاذ /صالح . بين أجنحة الموت، تتلقفه من كل إتجاه، تنكر له بعض الأصدقاء الذي كان يوماً من الأيام يعلمهم في الجيش والذي رتب وضعهم السياسي في صفوف الجبهه القومية، كانوا للأسف الشديد يرى دائماً خلف وجوههم الموت بينما كان يعتبرهم أصدقاء...
كان يلاحقه الحزن وهو في السجن، كان يتساءل عن هؤلاء عن أي قيم يؤمنون بها وهم يعذبونه ...
كان يتذكر إخوانه، وشقيقة وهو يقلب سطور الوصية التي كتبها وهو ذاهب للإعدام ، وحين تم الإفراج عنه عاد إلى منزله وهو ينظر للأطفال الأيتام وهم ينظرون إليه والعيون ممتلئة بالدموع، كان فقيرا لايملك لهم هدية يأتي بها أو حتى يستطيع أن يسد بعض الفجوات الكبيرة التي تركوها خلفهم إخوانه وعيال عمومته... طرد من الجيش، ومن الوظيفة، لا يملك من المال شئ، كان يتمنى الموت ولا ينظر إلى هذه المشاهد التي تزيده صباح مساء، حزنا شديدا. يرى الأرامل من النساء والأمهات آلتي يبكن أولادهن وهناك العجزة... تتوقف الكلمات وتنطق المشاعر فلا ترى غير الدموع ولا يسمع غير الشهيق، أنها عائلة كبيرة تندب شباب في عمر الزهور... من عائلة آل (سالم منصور) فمنهم المسجون الذي لازال في السجن، ومنهم من تم إعدامه حتى كان من أبناء عمه ثلاثة على أب وأم تم إعدامهم ، كانت الدموع لا تفارق الأطفال والنساء. عوائل تبكي لليلا ونهارا تقطع نياط القلوب...
عاش أستاذنا الكابوس في حياته مع المطاردات الليلة كان لا يبيت ببيته وبين أولاده وأمه المكلومة على أخيه الأكبر ووالده العاجز المريض... كانوا يريدون إلحاقه بإخوانه لكن الله جعل له إخوان آخرين، من المناضلين، أعانوه على تجاوز هذا الحقل الملغوم.
واخيرا كتبت الله له الحياة.
فقد عاش حوالي عشر سنوات، كانت أجمل سنوات حياته، بل يطلق عليها بأنها سنوات ذهبيه ومن أروع وأجمل أيامه من عام١٩٦٠م حتى١٩٧٠م أيام الشاب الثائر، ومن بعدها عاش كوابيس ومطاردة من قبل الاوباش، كما يطلق عليهم...
فقد كتب مذكراته باسم (كوابيس الفجر) ذكر فيها تلك المعاناة...
بعد خروجه من الجيش عام١٩٧٤م، تم إحالته إلى وزارة الأسماك، ضابط لاسلكي على السفينة (بروم) ثم تم الغدر به من الأسماك... بعدها عاد إلى وطنه الاصلي، السواد مديرية الوضيع، فكتب الله له لقاء مع الهامة التربوية الاستاذ الرائع كما يطلق عليه الاستاذ ،صالح/ صالح النقي رحمه الله، وتم إلحاقه بالسلك التربوي مدرساً ، وفي عام١٩٨٣م تحول بقرار مركزي. بعد وساطة صديقه السفير/ عبدالله سالم الحنكي، كان يومها سفيرا للبلاد في الاتحاد السوفيتي.(روسيا اليوم)
فقد كلف أخوه/ الاستاذ/ أحمد سالم الحنكي، بالتواصل مع المحافظة وفعلا نسق مع محافظ المحافظة/ محمد علي احمد. آنذاك ، والبداية كانت، مقابلة مع سكرتير الحزب الاشتراكي اليمني، بالمحافظة، وهو/ أحمد حيدره سعيد. الذي تبنى هذالقرار كونه المسؤول الأول للحزب بالمحافظة، وتم تعيينه مسؤول مالي وإداري. لمعهد ياذيب في أبين، زنجبار، كانت هذه الوظيفة من الوظائف الكبيرة. بعدها جاءت إحداث يناير، كان إحدى جناح الموت تصيبه، ولكن كانت عناية الله به، فقد أنقذته من مطبات كثيرة وضعت له في الطريق، فوجد نفسه في السوادية مع حكومته وقيادتها الموقرة .
بعدها عاد إلى سلك التدريس...حتى أحالوه الى المعاش ٢٠٠١م .
فقد قلد أوسمة منها وسام التحرير...و ميدالية حرب التحرير. ووسام نوفمبر.
"وفي النهاية، يمكننا أن نتعلم من هذا الشخص المربي والسياسي والثوري، الشجاعة والإرادة القوية. حيث لم ينكسر أمام المعاناة ، ويمكننا أن نتعلم منه كيفية العيش بكل ما في الحياة من جمال وحلاوة ومرارة، والمضي إلى الأمام وعدم الخوف من التحديات."
ولازال أستاذنا القدير ، يتمتع بالحيوية والنشاط البدني والنفسي والاجتماعي ، بل لازال يتحدى الشباب في الرمي بالبندقية الأهداف التي يعجز عنها الشباب، ويصيب الأهداف بكل سهولة، وهذا يدل على إتقانه الأعمال التي تسند إليه...
متعه الله بالصحة والعافية.