المعلم صانع الأجيال وحارس النور
حين نتأمل في سرّ نهضة الأمم وبقاء الحضارات؛ نجد أن الشعوب التي رفعت من شأن العلم، لم تبلغ ذلك؛ إلا برفع مكانة المعلّم. فإذا انكسرت هيبته في النفوس؛ انكسر العلم، وإذا هُيِّن قدره؛ ضاع الأدب وتلاشى النور.
لقد عظّم الله تعالى شأن العلم وأهله، فقال: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]، وجعل النبي ﷺ العلماء ورثة الأنبياء، فهم حملة الهداية ومشاعل النور. والمعلمون في جوهر دورهم هم حَمَلة هذا الميراث، يصنعون الرجال، ويغرسون القيم، ويشيّدون في العقول والقلوب معالم الإيمان والمعرفة.
فمن بين يدي المعلّم يتخرّج الطبيب الذي يداوي الأجساد، والمهندس الذي يعمّر البلاد، والقائد الذي يحمي العباد. ولذا قال الإمام الشافعي: "من علّمني حرفًا صرتُ له عبدًا"، إشارة إلى عظم حق المعلم. وكان الإمام أحمد يدعو لشيخه الشافعي في كل صلاة بعد وفاته، وفاءً لمن فتح له أبواب العلم.
وقد ضرب سلف الأمة أروع الأمثلة في توقير المعلّم؛ فهذا ابن عباس رضي الله عنهما، يأخذ بركاب زيد بن ثابت كاتب الوحي ويقول: "هكذا نُؤمر أن نصنع بعلمائنا". والشافعي كان يقلب صفحات كتابه أمام مالك بخفة حتى لا يُسمع وقع الورق هيبةً له. ومقولة السلف مشهورة: "من لم يوقر العالم لم ينتفع بعلمه"؛ لأن العلم لا يزدهر إلا في بيئة يسودها الأدب.
احترام المعلّم ليس عادة اجتماعية عابرة؛ بل هو سرّ بركة العلم. فالعلم الذي يُؤخذ في جوّ من التقدير يرسخ في العقول وينبت في القلوب نباتا حسنا. ومن ثمار ذلك أن يتعلم الجيل الوفاء والاحترام، فينشأ على تقدير الكبار، وصيانة أهل الفضل، واستقامة الأخلاق.
وإهانة المعلم أو التقليل من شأنه إساءة للأمة كلها؛ لأنها إطفاء لمشعل الهداية وكسر لميراث الأنبياء. فإذا فقد الطلاب احترام معلميهم؛ بحثوا عن قدوات زائفة في إعلام هابط أو فضاءات منحرفة؛ ولذا قال عبد الله بن المبارك: "نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم".
المعلّم أمانة في عنق الأمة. ومن حقه أن يُكرم ماديا ومعنويا، وأن تُهيأ له بيئة تحفظ كرامته، وأن يُجعل قدوة إعلامية وتربوية؛ لا أن يُستبدل بقدوات زائفة. كما أن الأسرة مسؤولة عن غرس قيمة احترام المعلم في نفوس الأبناء، بأن يتعلموا أن الدعاء له وفاء، وخفض الصوت عنده أدب، وتعظيمه عبادة.
إن إعادة الاعتبار للمعلّم ليست ترفا اجتماعيا؛ بل ضرورة شرعية وحضارية؛ إذ هو صانع الأجيال، وحارس القيم، ومجدد الرسالة. فإذا استعاد المعلم مكانته، استعادت الأمة هيبتها، ونهضت من كبوتها، وأشرقت من جديد بنور العلم والإيمان.
رحم الله جميع معلمينا!
وبارك في معلمي اليوم!
وأدام الله سلامة الجميع!