ابتكار زراعي مصري يقلب معادلة إنتاج القمح

من المتوقع زراعة مليوني فدان من القمح في مصر مع توفير ملياري متر مكعب من المياه 

ابتكار زراعي مصري يقلب معادلة إنتاج القمح

(أبين الآن) متابعات

بقلم: د. عبد التواب بركات

مستشار وزير التموين المصري سابقاً 

قصة الإنسان مع القمح والخبز قديمة قِدم التاريخ. فالقمح هو أول المحاصيل الغذائية التي استأنسها الإنسان في العصور القديمة. ويرجّح علماء الآثار أن تكون أول محاولة ناجحة لزراعة القمح قد تمت في منطقة الهلال الخصيب قبل عشرة آلاف سنة قبل الميلاد. والهلال الخصيب مصطلح أطلقه عالم الآثار الأمريكي جيمس هنري برستد سنة 1900 على حوض نهري دجلة والفرات والجزء الساحلي من بلاد الشام.

فاكتشف الإنسان في الشام المواعيد المثلى لزراعة القمح، واهتدى إلى المعاملات الزراعية الملائمة لنموه واكتمال سنابله. واخترع الأدوات المناسبة لحصاده، وصنع الآلات المطلوبة لتذريته واستخلاص الحبوب من السنابل وتخزينها. ثم انتقلت مهارة زراعة القمح من منطقة الهلال الخصيب إلى مصر وشرق آسيا وأوروبا.


وكما استأنس سكان الهلال الخصيب القمح، أبدع المصريون القدماء في بناء الصوامع وابتكار الطاحونة، واكتشاف خميرة الخبز والبيرة، وصناعة أفران الخبيز. وقبل ثمانية آلاف سنة، وثّق المصريون القدماء مراحل وطقوس صناعة الخبز من حبوب القمح بالصور والنقوش الجدارية المنحوتة على جدران المقابر والمعابد، ومنها مقبرة نفرتاري.

وشملت تلك الطقوس طحن القمح إلى دقيق، ثم عجنه بالماء وبعض الملح، وصبّه في قوالب بأشكال مختلفة، وتركه بعض الوقت ليختمر، ثم وضعه على أطباق خزفية وخبزه في أفران من الطوب اللبن. وقد خصّ القرآن الكريم مصر بذكر سنابل القمح ورغيف الخبز في سورة يوسف، الذي عاش في مصر قبل الميلاد بـ1800 سنة.

وظل القمح منذ ذلك التاريخ الغذاء الأساسي لإنسان الحضارات في مصر وغرب آسيا وأوروبا. واليوم، يُعرف القمح بالحبة الذهبية، ويُزرع في أكبر مساحة أرضية لأي محصول زراعي آخر. فهو يشغل سنويًا أكثر من 220 مليون هكتار حول العالم. ويبلغ الإنتاج العالمي من القمح نحو 800 مليون طن، ما يفوق إنتاج جميع المحاصيل الأخرى، بما في ذلك الأرز والذرة والبطاطس.

ولا يزال القمح أهم مصدر للحبوب الغذائية للبشر، ويلعب دورًا أساسيًا في الأمن الغذائي العالمي، إذ يوفر ما بين 20% و 50% من البروتين والسعرات الحرارية المستهلكة عالميًا. وتبلغ كمية القمح المتداولة في التجارة الدولية نحو 200 مليون طن متري، وتُقدَّر قيمة التجارة بنحو 50 مليار دولار.

سباق دولي لزيادة إنتاج القمح

معدل إنتاجية القمح، أو الغلة كما يسميه المتخصصون، هو كمية إنتاج القمح في الهكتار الواحد. ويُعزى تزايد إنتاج القمح في العالم إلى زيادة الإنتاجية بالمقام الأول، وليس إلى زيادة المساحة المنزرعة بالمحصول. وتزيد الإنتاجية باستخدام البذور عالية الإنتاج، المقاومة للملوحة والأمراض النباتية، والتسميد الكيماوي بالمقررات المطلوبة، وبرامج إرشاد المزارعين إلى طرق الإنتاج الحديثة، واستخدام الميكنة المتطورة في الزراعة والحصاد.

في عام 1951، كان معدل الإنتاج العالمي يقارب 1 طن/هكتار. ودخلت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية في تحدٍّ للتحكم في إنتاج وتجارة القمح واستخدامه كسلاح في صورة مساعدات لترويض الأنظمة حول العالم. وصلت الإنتاجية فيها إلى 2 طن/هكتار بحلول أوائل الثمانينيات، وارتفعت إلى 2.5 طن/هكتار عام 1995، وذلك بفضل الثورة الخضراء التي فجرها في الخمسينيات عالم الزراعة الأمريكي نورمان بورلاوج. وتقريبًا، توقفت الزيادة في الإنتاجية على المستوى العالمي منذ ذلك التاريخ.

لكن ظلت الولايات المتحدة تتحكم في تجارة القمح كأكبر مصدر له في العالم حتى أزاحتها روسيا عن الصدارة سنة 2010 تحت قيادة بوتين. ورغم تراجع صادراتها إلى نصف الصادرات الروسية، ما زالت الولايات المتحدة تتحكم في تجارة القمح من خلال أسطول سفن النقل البحري الأمريكي العملاق، والذي تمتلكه أربع شركات جميعها أمريكية.

معاناة زراعة القمح

عايشنا زراعة القمح في القرى المصرية. وكان يوم الزراعة بالذات حافلًا بالأشغال الشاقة على الفلاحين وأطفالهم. يحتاج الفدان الواحد إلى ثمانية فلاحين وعدد من الماشية لحرث الأرض ونثر البذور وتغطيتها وتقسيم الأرض إلى أحواض. ورغم المشقة التي يبذلها الفلاح في تسوية الأرض، فإنها لا تخلو من المنخفضات والمرتفعات. وكانت بعض النباتات في المناطق المنخفضة تموت من الغرق أو ينخفض إنتاجها، وبعضها يموت من العطش أو ينخفض إنتاجها بسبب عدم كفاية المياه في المناطق المرتفعة.


وكانت عملية ريّ القمح، التي تتكرر مرة كل أسبوعين حتى ينضج بعد سبعة أشهر، أكثر مشقة. فيحتاج الفدان الواحد إلى اثنتين من الماشية تتناوبان طوال الليل أو النهار على تشغيل الساقية، أو «الطنبوشة» بلغة بعض الفلاحين، حتى تغمر المياه حقل القمح بارتفاع شبر. وكانت ربات البيوت والفلاحات يذهبن لحلب البقرة أو الجاموسة بجوار الساقية في الحقل مرتين عند المغرب والفجر. وقد يأخذ الفلاح ماشيته للبيت لإرضاع عجلها الصغير ثم يعود بها مرة أخرى للساقية لتأخذ المناوبة. هذه المعاناة موجودة في كثير من دول العالم التي تزرع القمح بالري ولا يتوفر لديها المطر الكافي.

ابتكار مصري يقلب المعادلة

في الثمانينيات، ثبت بالتجربة أن زراعة القمح في أحواض مرتفعة، على مصاطب، له فوائد كبيرة في توفير مياه الري وزيادة الإنتاجية. ودخلت الميكنة في زراعة القمح، والتي تُعرف باللغة العربية بـ«السطارة»، منذ عشرات السنين. وكان لها الفضل في توفير كمية الحبوب المستخدمة في الزراعة إلى النصف. لكن ظل وجود آلة تقوم بعمل المصاطب وزراعة القمح ميكانيكيًا بالتوازي غير متوفر.

وكما أحدث الفلاح المصري ثورة في الري حول العالم باختراع الشادوف لنقل المياه من القنوات المنخفضة لري الأراضي المرتفعة، ابتكر العالم الزراعي المصري الدكتور عاطف سويلم، الأستاذ بكلية الزراعة جامعة الزقازيق، تلك الآلة المفقودة وبتكلفة منخفضة وسهلة الصيانة. التقنية الجديدة وفرت الدقة في توزيع البذور، وزادت الإنتاجية، وقللت معدلات الري، وسمحت بزراعة محاصيل أخرى غير القمح مثل الذرة وبنجر السكر والأرز. وساهمت النتائج في زيادة مساحات القمح المزروعة على المصاطب من 1670 هكتارًا سنة 2011 إلى 45000 هكتار سنة 2014.

حققت هذه الآلة نتائج مبهرة، فتكفي الواحدة لزراعة 300 فدان خلال أسبوعين، فأعفت الفلاح والماشية من عمليات الزراعة والري التقليدية، وفرغتها لإنتاج الحليب واللحم. ووفرت 25% من مياه الري. واختصرت زمن ري الفدان الواحد إلى ثلاث ساعات في المتوسط. وخفضت معدل البذور المستخدمة في الزراعة بنسبة 50%، وخفضت تكاليف الزراعة بنسبة 25%، وزادت كفاءة الأسمدة بنسبة 30%، وزادت غلة المحصول بنسبة 25%، بالإضافة إلى توفير فرص لتشغيل الخريجين الجدد بالاستثمار المحلي في تصنيع تلك الآلة وتصديرها.

الآلة الجديدة توفر 4 مليارات دولار

من المتوقع في مصر أن يتم زراعة مليوني فدان من القمح باستخدام تلك الآلة المبتكرة، ما يوفر ملياري متر مكعب من المياه. وتحقيق فوائد بقيمة 4 مليارات دولار أمريكي خلال 15 سنة، تعود على موازنة الدولة وأكثر من مليون فلاح قمح مصري. تشمل المزايا الأخرى انخفاض واردات القمح بأكثر من 50%. وإذا لم تُهمَل الفكرة، واهتمت الحكومة بنشر هذه الآلة بين الفلاحين، فسوف تنزل مصر من على كرسي أكبر مستورد للقمح في العالم.

تحتاج زراعة هذه المساحة في مصر إلى تصنيع 4800 آلة، توفر 550 وظيفة للشباب بدوام كامل لمدة عام. وستولد الصيانة أيضًا فرص عمل لحوالي 440 شابًا بدوام كامل، وستكون هذه الوظائف دائمة. وتتضاعف فرص العمل والمكاسب بالتوسع في التصدير إلى الدول التي تحتاج هذه التقنية.

وقد منحت حكومة اليابان العالم المصري، الذي لا يعرفه أبناء وطنه، جائزة المركز الدولي الياباني للبحوث الزراعية. واحتفت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) والمركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا) بالابتكار الجديد. وقالت المنظمة الأممية إن الآلة الجديدة تناسب زراعة القمح في مصر والهند وإثيوبيا وإريتريا والعراق والأردن والمغرب ونيجيريا وأوزبكستان والسودان، وتُستخدم بمرونة في زراعة القمح والبرسيم والأرز والذرة وبنجر السكر والفول