منطقة قعوة في مديرية البريقة حين يغيب الماء والطريق والكهرباء.. تحضر المأساة بكل تفاصيلها؟

(أبين الآن) تقرير | جلال الصمدي
على أطراف مدينة عدن،وفي أقصى حدود مديرية البريقة،تمتد منطقة صغيرة تُدعى قعوة،لكنها تحمل في صدرها وجع وطنٍ بأكمله. هناك، حيث ينتهي الطريق المعبّد وتبدأ الرمال في ابتلاع خطوات العابرين، يعيش أناسٌ يشبهون البحر الذي يجاورهم: هادئون في ظاهرهم، لكن داخلهم عاصفة من الألم والصبر والانتظار.
منطقة قعوة ليست مجرد اسمٍ على خارطةٍ نائية، بل شاهد حيّ على زمنٍ طويل من الإهمال الرسمي والتهميش التنموي، حيث لم تصلها يد الدولة إلا في شكل وعودٍ عابرةٍ، ولا عرفها الإعلام إلا في لحظات نادرة من تسليط الضوء، ثم عادت إلى صمتها الأبدي.
وفي هذا التقرير سوف نستعرض التحديات والصعوبات الكبيرة التي يواجهها سكان المنطقة،وكيف أن حياتهم اليومية تتشابك مع غياب البنية التحتية والخدمات الأساسية،وكيف يبذل السكان الذين لا يتجاوز عددهم بضعة آلاف،جهدًا مضنيًا للبقاء على قيد الحياة في ظل غياب الماء والكهرباء والطريق والتعليم والصحة.
•من منطقة قعوة إلى مديرية البريقة مسافة تقطعها المعاناة لا الكيلومترات:-
الطريق إلى قعوة ليس طريقًا،بل اختبار لصبر المسافرين.مسافة قصيرة على الورق، لكنها طويلة بقدر ما تحمله من مشقةٍ وعزلةٍ وخطر. طريقٌ رملي متعرّج يبدأ بالأمل وينتهي بالخذلان، تمرّ فيه السيارات نادرًا، وتعلق أحيانًا في الرمال كما يعلق الأمل في قلوب سكان المنطقة.
الرمال تزحف على الطريق، والعواصف البحرية تلتهم أطرافها، وفي كل منعطف يختبر المرء قسوة الطبيعة وغياب الدولة في آنٍ واحد. هناك، لا شيء يسير بسهولة:لا وسائل نقل ثابتة،ولا طريق ممهدة، ولا خدمات تليق بإنسان يعيش في القرن الحادي والعشرين.إنها عزلة لم تفرضها الجغرافيا فقط، بل عمّقها الإهمال المتراكم عبر عقود.
•الكهرباء في قعوة...حلمٌ يتجدد كل مساء ولا يأتي:-
في منطقة قعوة،الكهرباء ليست خدمة، بل حكاية انتظارٍ لا تنتهي.فحين تغيب الشمس، يبدأ السكان رحلة جديدة مع الظلام. المصابيح الصغيرة التي تُضاء بالبطاريات أو الفوانيس ليست للزينة، بل لتضيء كُتب الأطفال المتشققة في مدارس لا تعرف معنى التجديد.
في كل بيتٍ هناك طفلٌ يحاول أن يقرأ تحت ضوءٍ خافتٍ، وأمٌّ تشعل شمعة لتكمل إعداد العشاء. هنا، الضوء ليس رفاهية، بل شرط للبقاء، ومؤشر على مدى الحياة أو غيابها.الكهرباء لم تصل إلى قعوة منذ عقود، إلا عبر وعودٍ تُضاء في التصريحات وتُطفأ في الواقع.
•في منطقة قعوة..الماء أغلى من الذهب:-
في هذه المنطقة الساحلية،الماء ليس متاحًا رغم قرب البحر.فهو يأتي بصعوبة ويُغادر بسرعة.تعيش الأسر على صهاريج متنقلة تأتي في فتراتٍ متقطعة، وأحيانًا يقطع الناس الكيلومترات مشيًا لجلب ما يسدّ عطشهم ليومٍ واحد.الماء هنا امتحان يومي للبقاء، وكل قطرة تُحسب كإنجاز.
لقد تحوّل الحصول على الماء إلى طقسٍ من المعاناة اليومية، تشترك فيه النساء والأطفال والرجال على حدٍ سواء.
وفي غياب مشاريع المياه المستدامة، تحوّل الماء إلى سلعةٍ نادرةٍ، يتقاسمها الناس بحذرٍ، وكأنهم يتقاسمون الحياة نفسها.
•التعليم في منطقة قعوة...بين حلمٍ مكسور وسبّورة بلا طباشير:-
المدارس في قعوة ليست مباني للتعليم بقدر ما هي شواهد على الصبر الإنساني.
جدرانٌ متشققة، نوافذ مكسورة، مقاعد مهترئة، وكتب أكلتها الرطوبة والملوحة.
ورغم ذلك، يأتي الأطفال كل صباح، يحملون دفاترهم القديمة وابتساماتٍ صغيرة لا تعرف الهزيمة.
المعلمون قلّة،والمناهج شحيحة، والمباني تفتقر لأبسط مقومات العملية التعليمية لكن ما يلفت الانتباه هو إصرار هؤلاء الأطفال على التعلم رغم غياب كل أدواته.إنهم يحلمون بعالمٍ مختلف، لكنهم يعيشون في واقعٍ لا يمنحهم سوى فتات الحلم.في قعوة، التعليم ليس ترفًا، بل وسيلة لمقاومة النسيان، ومحاولة للنجاة من دائرة الفقر والإقصاء.
•الصحة في منطقة قعوة...حين يصبح الجرح الصغير كارثة:-
إذا مرض أحد سكان قعوة، فإن رحلة العلاج قد تكون أطول من رحلة الشفاء.
فلا وجود لمستشفى مجهّز، ولا لطبيبٍ دائم، ولا لدواءٍ متوفر.وأي حالةٍ طارئة تتحول إلى سباقٍ مع الزمن والطريق في محاولة للوصول إلى مستشفيات البريقة أو عدن.وفي أحيانٍ كثيرة، يخسر المرضى هذا السباق.
المرض في قعوة ليس مجرد وجعٍ جسدي، بل وجع إنساني يعكس غياب الدولة بكل مؤسساتها.الطبيب والصيدلي أصبحا أسماء تُكتب في الأوراق الرسمية فقط، أما على الأرض فهما غائبان.يعيش الناس بين الألم والصبر، بين الدعاء والانتظار، في منطقةٍ لا تملك سوى الله والبحر والرجاء.
•المرأة الساحلية في منطقة قعوة العمود الذي لا ينكسر:-
في قعوة، النساء لسن مجرد ربات بيوت، بل جنود الصبر اليومي.يقفن على الشاطئ جنبًا إلى جنب مع الرجال، ينظفن الأسماك، يجففنها، يملحنها، ويصنعن منها منتجات غذائية تبقي الأسرة على قيد الحياة.كما يقمن بحياكة شباك الصيد وصيانتها، ويقمن بأدوارٍ اجتماعية وإنسانية لا تُقدّر بثمن.
لكنّ المرأة هنا أيضًا تعيش تحت عبء مضاعف: فهي تتحمل مسؤولية البيت والعمل والمرض والتعليم في غياب أبسط الخدمات الأساسية.ومع ذلك، ظلت صامدة. حولت الألم إلى قوة، واليأس إلى فعل، لتصبح رمزًا حقيقيًا لصمود الساحل اليمني المنسي.
•مشاريع صغيرة...ضوءٌ خافت في عتمةٍ طويلة:-
في السنوات الأخيرة،بدأت بعض المبادرات البسيطة تطرق أبواب قعوة، أبرزها مشروع دعم الصيادين والمرأة الساحلية، برعاية معالي وزير الزراعة والري والثروة السمكية اللواء سالم عبدالله السقطري، ورئيس هيئة مصائد خليج عدن الدكتور عبدالسلام أحمد علي، بدعم من منظمة سمارتيان بيرس للإغاثة الدولية.
تم توزيع محركاتٍ وقواربٍ جديدة على عددٍ من الصيادين، فكانت تلك قبسًا من الأمل في ليلٍ طويل.استطاع العديد منهم الوصول إلى مناطق صيدٍ كانت بعيدة عن متناولهم، وتحسّنت أوضاعهم المعيشية قليلًا.لكن المشروع رغم أهميته ظل نقطة ضوءٍ محدودة في بحرٍ من الظلام.كما شمل الدعم منحًا عينية للنساء الساحليات، تضمنت أدوات للتجفيف والتخزين وصناعة الشباك، وهي مبادرات رمزية لكنها أكدت أن قعوة لا تحتاج المعجزات، بل تحتاج فقط إلى من يسمعها بصدق ويمنحها الفرصة لتعيش بكرامة.
وأخيراً سكان منطقة قعوة في مديرية البريقة يصرخون هل يسمعنا أحد؟
سؤالٌ يوجّه نفسه إلى كل من يمتلك القرار، والضمير والإرادة.لأنّ إنقاذ منطقةٍ مثل قعوة ليس مجرد عملٍ خيري، بل اختبارٌ حقيقي لإنسانية الدولة والمجتمع فمن يسمع هذه الصرخة؟ومن يمدّ لها يد النور بعد كل هذا الظلام؟