ماذا لو كان الذباب بحجم الإنسان؟!

بقلم: حسن الكنزلي

في كثير من الأحيان؛ لا نُدرك نِعَم الله؛ إلا حين نتخيّل غيابها، ولا نستشعر لطفه إلا عندما نسمح لخيالنا أن يعيد تشكيل الأشياء من حولنا. ومن أعجب ما نراه كل يوم دون التفات أو تدبّر: الذباب. هذا الكائن الصغير الذي يمرّ بنا فيغضب بعضُنا من إلحاحه، ويسخر بعضُنا من حجمه، لكنه — لو شاء الله — كان يمكن أن يكون شيئا آخر تماما… شيئا مخيفا يعصف بأمان حياتنا.

دعونا نفتح باب التأمل، ونسافر مع الخيال المربوط بالعلم: ماذا لو خُلق الذباب بحجم الإنسان؟

للذباب عيون مركّبة، تلتقط أدقّ حركة، وترى كل شيء في اللحظة ذاتها. فلو كان بحجم الإنسان، لكان كائنا لا يُفاجأ أبدا، يرى خلفه كما يرى أمامه، ويتتبع خطواتك الدقيقة قبل أن تخطوها. تخيّل مدينة يسكنها مخلوق يستطيع رصد نبضات قلب من على بُعد؛ أي رعبٍ سيكون ذلك؟!

الذبابة اليوم تهرب من يدك قبل أن تتحرك يدك أصلا. وإذا كبُر حجمها وبقيت سرعتها العصبية على حالها، لكانت تقفز قفز الوحوش، وتنطلق اندفاعا كما تنطلق الرصاصة. ستسبق ظلك، وتفكّ شيفرة الهواء قبل أن يلمس جلدك.

الذباب لا يأكل؛ بل يذيب الطعام أولا! يفرز عليه سوائل تفكّكه، ثم يمتصه. فإذا تضخّم حجمه؛ فسنكون أمام كائن يُسقط لعابه على كل ما يُشبه الغذاء، فيذوب شيئا فشيئا؛ فكم كان سيستهلك؟ ربما ما يعادل وزن طفل كل يوم، وربما أكثر(؟!)؛ فمدينة كاملة لن تكفي لإشباع ذبابة واحدة بحجم إنسان!

لهذا المخلوق أرجل لاصقة، تتحدى الجاذبية! ولو كبر حجمها لكان بإمكانه الصعود على جدران البنايات كما نصعد السلالم، والوقوف على سقف غرفتك كما يقف الناس على الأرض! تخيّل الليل، وتخيّل الظلال، وتخيّل أصواتا ضخمة تتحرك فوق رأسك.

قوانين الخَلْق تمنع الذباب العملاق من الطيران؛ لأن الأجنحة ستعجز أمام وزنه. لكنه سيعوّض ذلك بقفزات جبارة، واندفاع يشبه ارتطام سيارة صغيرة. كائنٌ لا يطير؛ لكنه لا يُلحَق.

الذباب لا يعرف النظام، لا يعيش ضمن مستعمرات كالنحل، ولا يخضع لتراتبية كالطيور. لو كبر حجمه لأصبح سيد الفوضى في الأرض؛ يقتحم، يكسر، يندفع، يبحث عن أي أثر للطعام، ثم يترك خلفه رائحة القذارة التي صُمّم للتعايش معها.

ونحن نعرف حجم الأمراض التي ينقلها ذباب صغير لا يُرى. فكيف لو حمل ملايين الجراثيم على جسد بطول مترين؟ مدينة واحدة كفيلة بأن تتحوّل إلى بؤرة وباء، ما إن يضرب جناحه — أو ما تبقى منه — على طاولة، أو يمرّ فوق بقايا طعام.

الذباب يتكاثر بسرعة، ويخرج من البيوض خلال أيام. لو كان بحجم الإنسان؛ لخرجت مخلوقات عملاقة كل أسبوعين، ولكان الكون عاجزا عن احتوائها. بكلمة واحدة: انهيار بيئي شامل!

يا لها من نعمة خفية! لو شاء الله لخلق الذباب عملاقا، أو جعل منه كائنا مفترسا، أو جعله مزعجا كما يزعج صغاره في العدد. لكنه — عز وجل — سلّط منه القليل، وضبط خلقه، وجعله بالحجم الذي يتحمّله الكون؛ فما أجمل أن نتذكر قول الله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾! فمن جنود الله ما يُرى وما لا يُرى، وما صَغُر وما كَبُر، وما لو تغيّر مقدارُه لقلب ميزان الحياة رأسا على عقب.

حين ننظر إلى الذبابة الآن، بعد هذا الخيال العلمي المتأمل؛ ندرك حقيقة كنا نغفل عنها: أن صِغَر حجمها رحمة، وأن وجودها مضبوط بميزان إلهي دقيق، وأن العالم يمشي على خيوط حكمة لا يعلمها؛ إلا الله.

فالحمد لله على النعم التي لا نعدّها، ولا نلتفت إليها، ولا نشعر بها إلا حين نتخيل العالم بدونها.

نسأل الله أن يحفظ لنا بيتنا الأكبر -بيئتنا- ودمتم سالمين!