الفيزياء... نبض الحياة وأساس الحضارة
بقلم: أ.د مهدي دبان*
القول بأن "الفيزياء هي الحياة" ليس عبثا، بل هو تعبير صادق عن عمق هذا العلم وأثره الجذري في حياة الشعوب ونهضتها. فالشعب الذي يولي اهتماما بالفيزياء وتفرعاتها، هو شعب يخطو نحو التقدم، وتُحسب له ألف حساب. وما نشهده اليوم من تفاوت في موازين القوى والتطور بين الدول، هو دليل ساطع على أن الدول التي استثمرت في هذا العلم أصبحت تقود العالم علميًا، تقنيا، واقتصاديا، بل وعسكريا .
تكمن أهمية الفيزياء في كونها تتغلغل في تفاصيل الإنسان الدقيقة؛ فينبض القلب كمضخة تخضع لقوانين ميكانيكا الموائع، ويتدفق الدم في الأوعية وفق مبادئ الضغط والحركة، وتنتقل الأوامر العصبية بإشارات كهربائية تخضع لقوانين الكهرباء والمغناطيسية. السمع يخضع لمفاهيم الصوت، والرؤية ترتبط بالبصريات والعدسات. وحتى تشخيص الأمراض، من الأشعة السينية، والموجات فوق الصوتية، إلى التصوير المقطعي والرنين المغناطيسي، كلها أجهزة قائمة على مبادئ فيزيائية. وليس هذا فحسب، بل إن علاج الأورام بالنظائر المشعة ما هو إلا ثمرة تطور هذا العلم.
أما في الهندسة، فإن الفيزياء تسكن في عمق كل تخصص، فلا وجود لهندسة كهربائية أو مدنية أو ميكانيكية أو اتصالات دون أسس فيزيائية صلبة. قوانين الكهرباء والمغناطيسية، الميكانيكا، الاتزان، العزوم، والموجات، جميعها أدوات في يد المهندس. ولا يمكن للتكنولوجيا أن تتطور في صناعة الخلايا الشمسية أو وسائل الاتصالات أو الذكاء الاصطناعي إلا بالاستناد إلى مفاهيم الفيزياء الحديثة.
تتجلى الفيزياء حتى في تفاصيلنا اليومية؛ في الثلاجات، وأجهزة التكييف، والإضاءة، والهواتف، والتلفزيونات. كل هذه الأجهزة التي أصبحت جزءًا من روتيننا اليومي ما هي إلا نتاج تراكم معرفي فيزيائي عبر قرون. وإذا ما اتجهنا إلى مجال الصناعات العسكرية والتكنولوجيا المتقدمة، فسنجد أن جميعها تُبنى على مفاهيم دقيقة في علم الفيزياء، من المقذوفات، إلى الليزر، إلى تقنيات التخفي.
لكن المأساة المؤلمة أننا في اليمن – وتحديدًا في جامعة عدن – قد ألغينا امتحان القبول في مادة الفيزياء للكليات الطبية بحجة صعوبتها! بل إن الإقبال على أقسام الفيزياء في كليات التربية والعلوم أصبح شبه معدوم، والمدارس الثانوية تفتقر إلى مدرسي المادة، بل إن بعضها لا يدرس الفيزياء أصلا. وإن استمر هذا الحال، فسنجد أنفسنا بعد سنوات مضطرين لاستيراد من يُدرّس أبناءنا الفيزياء، أو سنشهد اندثارها من حياتنا تمامًا.
الفيزياء ليست مادة دراسية فحسب، بل هي نبضُ التطور وروح الحضارة. فإن أردنا لليمن أن تنهض، فعلينا أن نعيد للفيزياء مكانتها، وأن نُلهم أبناءنا بحب هذا العلم العظيم. فالشعوب لا تنهض بالأمنيات، بل بالعلم، وأول العلم... فيزياء.
اللهم قد بلغت اللهم فاشهد
*بروفيسور فيزياء الجوامد وعلم المواد