ولادة جديدة: حين ينهض القلب من سباته

بقلم: حسن الكنزلي


في زحمة الأيام؛ حين تتشابه الوجوه وتتكرر العادات وتبرد الأحاسيس، يحتاج الإنسان إلى وقفةٍ صادقة مع نفسه؛ وقفةٍ يعيد فيها اكتشاف ذاته، وينفض عنها غبار الغفلة، ويُحيي ما مات في داخله من شغفٍ وإيمان. والتجديد الحقيقي ليس في المظهر، ولا في تبديل الأماكن؛ بل في إحياء القلب، وإعادة الروح إلى مسارها الأول نحو الله.

يقول الله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾ [الأنعام: 122]، وليس المقصود موت الجسد؛ بل موت القلب حين يفقد نوره، وينطفئ فيه الإيمان.

التجديد ليس زينة خارجية؛ بل ولادة داخلية؛ أن يتغير باطنك قبل أن يتغير ظاهرك، وأن تتحسن سلوكياتك؛ لأن الله يراك؛ لا لأن الناس يصفقون لك. فكما تتبدّل الفصول لتعيد للأرض خضرتها، يحتاج القلب إلى شمس من الذكر، ومطرٍ من التوبة، ورياح من التفكر؛ ليبقى حيّا ناميا نابضا بالحياة.

القلب لا يعيش على إيمان الأمس، كما لا يعيش الجسد على طعام قديم. فكل يومٍ يحتاج إلى جرعة من التوبة والذكر، كما يحتاج البدن إلى خبزه ومائه. يقول الحسن البصري رحمه الله: "ما زال أهل العلم يعودون أنفسهم على المراجعة حتى صار التجديد لهم عادة".

لكن أخطر ما يُصيب الإنسان أن يموت قلبه وهو لا يشعر! يتحرك بين الناس بجسدٍ حيٍّ، وقلب خاوٍ من المعنى. يموت حين تمرّ النعم فلا يشكر، وحين يسمع الموعظة فلا يتأثر، وحين يصبح الدين عادة لا عبادة، والصلاة حركة بلا خشوع. حينها، يصبح الإنسان كالسفينة التي تبحر بلا وجهة، تتقاذفها أمواج العادة والغفلة؛ ولذلك قال النبي ﷺ: «جددوا إيمانكم»، قالوا: وكيف نجدد إيماننا يا رسول الله؟ قال: «قولوا لا إله إلا الله». وهذه الكلمة ليست تردادا باللسان؛ بل تجديد لمعنى العبودية في القلب، واستحضار لعظمة المعبود في كل لحظة.

إن التجديد في الإسلام ليس شعارا عاطفيا؛ بل مشروع حياة دائم. قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9-10]؛ فمن زكّى نفسه وطهرها من غبار الذنوب؛ أفلح، ومن أهملها؛ غرق في ظلام داخليّ لا يُرى. ويصف النبي ﷺ حال القلوب فيقول: «تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا؛ فأيّ قلب أُشربها نُكت فيه نكتة سوداء، وأي قلبٍ أنكرها نُكت فيه نكتة بيضاء».
والقلب الأبيض هو الذي يُجدّد إيمانه بالذكر، ويتطهّر بالتوبة، ويتغذّى من القرآن.

التجديد رحلة تبدأ من الداخل؛ من تفكير يرفض الجمود، وروح تتصل بالله، وأخلاق تتبدل إلى الأحسن. يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾؛ فمن أراد أن يُغيّر واقعه؛ فليبدأ بتغيير قلبه. وللتجديد مجالاتٌ كثيرة:

- تجديد الفكر: أن تُفكر بعقلك لا بعادة الناس، وأن تفتح نوافذك للعلم والنور.
- تجديد الروح: أن تُكثر من ذكر الله، وتُخلِص نيتك في كل عمل.
- تجديد الأخلاق: أن تُحسِن للناس، وتُصلح ما بينك وبينهم.
- تجديد العلاقات: أن تعفو، وتُعيد بناء الجسور التي هدمها الغضب.

غير أن الطريق ليس مفروشا بالورود؛ فهناك عوائقٌ كثيرة: الغفلة التي تُميت الحسّ الإيماني، والخوف من التغيير، والتسويف الذي يُؤجل التوبة، والبيئة المثبطة التي تُطفئ الحماس؛ لكن الشجاعة الحقيقية أن تبدأ بنفسك، وأن تُواجه خوفك، وأن تقول لنفسك كل صباح: "اليوم أبدأ من جديد". ومن مفاتيح التجديد:
- التوبة اليومية؛ فهي ليست مرة واحدة؛ بل حياةٌ متجددة.
- الذكر والدعاء؛ فهو غذاء القلوب ودواؤها.
- الصحبة الصالحة؛ فهي مرآةٌ تريك عيوبك، وتُعينك على الإصلاح.
- العمل الصالح الدائم؛ فـ«أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل».

وحين يجدد كل إنسان ما في نفسه؛ تتجدد الأمة كلها. فنهضة الأمم لا تبدأ في القصور؛ بل في القلوب. الأمة التي تجدد إيمانها؛ تُبعث فيها الرسالة من جديد. أما التي يتجمد قلبها؛ فتموت رسالتها ولو بقيت رموزها. وثمرات التجديد كثيرة؛ طمأنينة في القلب، وثبات في المواقف، وحماس للحياة والعمل، ومجتمعٌ يسوده العطاء والإيجابية. وأعظمها جميعًا: أن يرضى الله عنك، فيمنحك الحياة الطيبة التي وعد بها المؤمنين: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾؛ فلتكن هذه الأيام بداية ولادتك الجديدة؛ لا بجسدٍ جديد؛ بل بقلب نابض بالإيمان، وروح متصلة بربها.
جدّد نيتك كل فجر، كما يُجدد النهار نوره، وقل بقلبٍ صادق: اللهم جدد الإيمان في قلوبنا، وأحيِ فينا روح الطاعة، وابعث فينا همّة السير إليك.
وأسأل الله إجابة دعائكم!
ودمتم سالمين!