مراقبة الطيور.. كيف يعلّمنا مراقبو الطيور رؤية الحياة

مراقبة الطيور.. كيف يعلّمنا مراقبو الطيور رؤية الحياة

(أبين الآن) متابعات

مراقبة الطيور مراقبة الطيور

تحية إلى مراقبي الطيور، أولئك المتفائلون، غريبو الأطوار قليلًا، حراس الدهشة والفرح والشغف والحب.

في جوهرها، مراقبة الطيور فعل من التمرد الهادئ، كما تقول ناتالي كيرياكو، إنها الفعل اللطيف للملاحظة، الرغبة في رؤية العالم من حولنا كما هو حقًا.

إنهم المخلوقات الأكثر فضولًا على الإطلاق. دقيقو الملاحظة، مخلصون، شديدو التركيز.

يتحدثون بنبرات خافتة تكاد تهمس، ويسيرون بصمت خارق فوق أوراق الشجر اليابسة، يمسكون المناظير كما يمسك الساقي كأس “دوم بيرينيون” بطمأنينة العارف. يمكنهم الجلوس في الأحراش ساعاتٍ بلا ملل، يتحدثون بلغة مشفرة وإشارات دقيقة، ويحتفظون بدفاتر صغيرة وأقلام رصاص، يسجلون فيها كل شيء.

ملابسهم عسكرية الدقة، سراويل كاكي، قميص بلون خشب الأرز، قبعة عريضة، وحذاء مقاوم للماء.

مراقبة الطيور

مراقبة الطيور

حياتهم الاجتماعية تحكمها مواسم الهجرة، وأحاديثهم تتخللها همسات مثل: “هل كان ذلك تغريدَ طائر القصب؟”

إنهم حاملو الأسرار الكونية، وحافظو الحكمة القديمة.

إنهم مراقبو الطيور.

مراقبة الطيور ليست مجرد هواية، إنها أسلوب حياة، كأن ترتدي “كروكس” أو تشترك في مجلة “جوب”.

مراقبو الطيور هم أكثر الناس تفاؤلًا في العالم، يؤمنون، رغم كل الصعاب، بأن ثمة طائرًا في مكان ما لم يروه بعد، ينتظر أن يُكتشف.

وسيواصلون البحث، خطوةً بخطوة، في أحذيتهم المريحة، مدفوعين بالأمل.

إنهم تجار الدهشة والإعجاب، سادة الطيور والأنظمة البيئية، وبالرغم من كل الصور النمطية عنهم، لا ينبغي أن يُستهان بقوة وتأثير وفرح مراقب الطيور، فلعلهم، في النهاية، أعظم مصدرٍ لإلهام الإنسان وأمله.

مراقبة الطيور

مراقبة الطيور

مراقب الطيور يمكن أن يكون أيّ شخص: الجار الودود الذي يبدو مهووسًا بإطعام طيور الحديقة الخلفية، أو زميل العمل الذي يصمت فجأة أثناء الاجتماع حين يلمح ظلًا يعبر النافذة، إنهم في كل مكان، يوثقون عالم الطيور بهدوء، عصفورًا بعد آخر.

مراقبة الطيور دعوةٌ للاتصال العميق بالعالم الطبيعي بطرقٍ مدهشة وغير متوقعة، ورغم أنها قد تبدأ كهوايةٍ فردية، إلا أنها تتحول إلى مجتمع رعاية ضخم، حركة قائمة على الفعل البسيط والمُغيِّر في آن: أن تشهد وتحمي روائع العالم.

وقليل من الهوايات يلقى سخرية كما تفعل مراقبة الطيور، فهي “دانجنز آند دراجونز” عالم الطبيعة.

أما ممارسوها، فيشغلون مكانًا غريبًا بين الجدّ المفرط والغموض الكامل في نظر الآخرين.

فمنهم “مراقبو البقعة”، المخلصون حد الهوس لحديقتهم المحلية أو المستنقع القريب، الذين يوثقون كل ورقة وغصن بدقة لا تصدق.

ومنهم “الصيادون” الذين، ما إن يسمعوا عن رؤية لطائر نادر، حتى يصيبهم هوس محموم، يتركون الأعراس والوظائف وحتى المواليد الجدد، ليرحلوا عبر القارات طلبًا للّحظة عابرة مع طائر ذهبي الجناحين.

ومنهم من يسجلون القوائم، ومن يراقبون من النوافذ، ومن يسمعون الطيور بالأذن، ومن يتتبعونها عبر البحار.

مراقبو الطيور في كل مكان، ومراقبة الطيور، كما يتضح، إدمان جميل.

في جوهرها، مراقبة الطيور فعل من التمرد الهادئ.

إنها اللطف في الملاحظة، والرغبة في الرؤية، والفعل الثوري الصامت في عالمٍ يعلّمنا أن نتجاهل الطبيعة أو نُخضعها.

إنها تطلب منا أن نتأنى، أن نصغي، أن نهتم، أن نرى.

مراقبة الطيور

مراقبة الطيور

ولم يكن الأمر يومًا عن طائرٍ واحد فقط، بل عن كل ما يبقيه حيًا: التربة، الأشجار، الأنهار، الرياح.

تتحول الطيور إلى عدسةٍ نرى من خلالها شبكة الحياة بأكملها، خيوط مترابطة من الجمال والاعتماد المتبادل.

وحين تراها، يصبح من المستحيل أن تنظر إلى الغابة كسلعة، أو إلى المستنقع كعائق.

فهذه المساحات مأوى لكائناتٍ تعتمد عليها للبقاء.

ومراقبو الطيور يدركون، أكثر من غيرهم، هشاشة العالم الطبيعي: يرونها في تناقص أعداد الطيور المهاجرة، وفي الموائل التي تلتهمها المدن، وفي الصمت الشاحب الذي يخلفه غياب الأغنية.

لكنهم يرون الأمل أيضًا: في عودة كندور كاليفورنيا من حافة الانقراض، وفي نهوض طائر الكركي الأمريكي بعد جهودٍ مضنية، وفي قدرة الطبيعة المذهلة على التعافي حين نمنحها الفرصة.

أن تكون مراقبًا للطيور، يعني أن تقع في الحب، حبٍّ مهووس، لا رجعة فيه، وربما ساذج بعض الشيء.

مراقبة الطيور

مراقبة الطيور

حبٌّ يتسلل إليك فجأة: نسرٌ يشق السماء، أو تغريدة العقعق مع بزوغ الفجر، أو نظرة بومةٍ ثلجيةٍ لا ترمش فوق التندرا.

فإليك أيها مراقب الطيور، أيها المتفائل، الغريب الجميل، حارس الدهشة والشغف والحب.

فأحيانًا، يكفي أن تفتح عينيك، وتخرج إلى الخارج، وتنظر إلى العالم من حولك.

وحين ترى، حين ترى حقًا، لن يمكنك أن تغمض عينيك من جديد.

سترى الجمال والدمار، الفرح والمأساة، وستقع في الحب.

وحين تقع في الحب، لن يكون هناك ما يمنعك من حماية هذا العالم الهشّ المدهش.