الذوق الإيماني جمال الإيمان في سلوك الإنسان

بقلم: حسن الكنزلي


في زمنٍ ازدحمت فيه الشهادات وضاعت الأخلاق، وتكاثرت المعارف وضعُف الذوق؛ أصبحنا أحوج ما نكون إلى ذوق إيماني يعيد التوازن بين العلم والسلوك، وبين النجاح والإنسانية، وبين اللباقة والخلق.
فالذوق ليس مظهرا اجتماعيا ولا عادة أرستقراطية؛ بل هو جمال الخُلق في لحظة التعامل، وهو تلك اللطافة التي تنبع من قلب سليم، فيفيض وجهُ صاحبها سكينة، ويغدو حديثه رحمة وأدبا.
الذوق في الإسلام ليس وافدا من حضارةٍ غربية ولا سلوكا دخيلا؛ بل هو تهذيب شرعي أصَّله النبي ﷺ في كل تفاصيل الحياة؛ من أدب الطعام إلى أدب الكلام، ومن حسن الجوار إلى حسن العشرة.
قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]. تأملوا هذا الأمر الإلهي البليغ، الذي جعل القول الحسن واجبا عاما يشمل كل الناس: المسلم والكافر، القريب والبعيد.
وقال ﷺ: «المؤمنُ يألَفُ ويُؤلَف، ولا خير فيمن لا يألَفُ ولا يُؤلَف»؛ فالمؤمن بطبعه لطيفُ الجانب، رحيم الكلمة، لا يصدّ بغلظة، ولا يعبس بتكبّر، ولا يؤذي بصوت أو نظرة أو إشارة؛ ولذلك قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: "نحن إلى قليل من الأدب أحوج منّا إلى كثيرٍ من العلم"؛ لأن العلم بلا ذوق يورث قسوة، أما الذوق فهو عبادة القلوب في ميدان المعاملة.

من ظن أن الذوق مظهر أو لباس؛ فقد جهل جوهره؛ فمن لم يتهذّب باطنه، لم تُجمّل ملامحُ ظاهره؛ فكم من أنيق الملبس فظّ الطباع، وكم من بسيط الهيئة عظيم الخُلق تهفو إليه القلوب قبل العيون!
الذوق الحق يبدأ من نقاء النية، وضبط الغضب، وحسن الظن، والرفق في الرد. قال ﷺ: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».
ذلك هو الذوق في أسمى صوره؛ أن تملك نفسك عند الغضب، وأن تردّ بالإحسان على الإساءة. وهكذا كان علي بن الحسين زين العابدين رحمه الله، حين شتمه رجل فقال له: "إن كنتَ صادقًا فغفر الله لي، وإن كنتَ كاذبًا فغفر الله لك". وذاك قمة الذوق، وغاية التهذيب!

والكلمة مفتاح القلوب، ومرآة النفوس. قال تعالى: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ [الحج: 24] وقال ﷺ: «الكلمة الطيبة صدقة»؛ فالمؤمن يختار كلماته كما يختار درره، ويزِنها بميزان التقوى قبل أن ينطق بها. لا يرفع صوته ليُسمع؛ بل يرفع خُلقه ليُحب. وكان ﷺ إذا حدّث أحدا التفت إليه بكليّته، حتى يظن كل واحد أنه أحبّ الناس إليه. وذلك هو الذوق الإيماني الذي لا يُدرّس في الجامعات؛ بل يُغرس في القلوب.

الإيمان ليس صلاة فحسب؛ بل هو حسن تعامل مع الناس في أفراحهم وأتراحهم، في طرقاتهم ومجالسهم، في حضورهم وغيابهم. قال ﷺ: «حقُّ المسلم على المسلم ستٌّ...»؛ فمن الذوق أن تزور بموعد، وتعتذر بذوق، وتشكر بإخلاص. وأن تفرح لغيرك كما تفرح لنفسك، وتلتمس الأعذار كما تُحب أن يُلتمس لك.
والذوق لا يعني التكلّف؛ بل هو صدقُ القلب في لطفه، وحياءُ الإيمان في تعامله. قال ﷺ: «الحياء والإيمان قرناء، فإذا رُفع أحدهما رُفع الآخر».

والذوق في بيئة العمل ليس زينة مهنية؛ بل هو عبادة سلوكية. قال ﷺ: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتقنه»؛ فمن ذوق المؤمن أن يحترم المواعيد، وأن يحفظ الأمانة، وألا يُهين أحدا مهما كانت مرتبته؛ فاللباقة لا تُشترى بالمال؛ ولكنها تُغرس في النفس المؤمنة؛ ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تعلّموا المروءة قبل أن تتعلّموا العلم".

والذوق في الإسلام لا يقوم على المظاهر كما في بعض الثقافات؛ بل يقوم على الإحسان، والإحسان أن تعامل الناس كما تُحب أن يُعاملوك؛ ولذلك قال ﷺ: «لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ... إلا بالتقوى»؛ فالمسلم سفيرٌ بأدبه قبل لسانه، وأجمل ما نُقل عن التاريخ أن الإسلام دخل جنوب شرق آسيا بصدق التجار وأمانتهم، لا بسيوفهم؛ فأسلمت القلوب قبل أن تنطق الألسنة. قال الحسن البصري رحمه الله: "إن حسن الخلق دين بلا ورق، وعبادة بلا تعب".

والذوق ليس ضعفا؛ بل قوة النفس وثبات القلب. والقوي هو من يملك نفسه عند الغضب، ويردّ بالحكمة على الجهل. قال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. ومن أجمل ما قيل في هذا المعنى قول الإمام الشافعي: "ما ناظرتُ أحدًا إلا وددتُ أن يُظهر الله الحقَّ على لسانه". ذلك هو الذوق العقلي والنفسي الناضج؛ أن تهدف إلى الحق؛ لا إلى الغلبة.

ختاما: الذوق في الإسلام ليس ترفا اجتماعيّا ولا سلوكا تجميليّا؛ بل هو عبادة خفيّة، ووجهٌ من وجوه الإحسان. قال ﷺ: «إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا»؛ فلنربِّ أنفسنا وأبناءنا على الذوق الإيماني؛ ذوق الكلمة الطيبة، وذوق النظرة الرحيمة، وذوق التعامل مع الخلق والخالق،
حتى نعيد للأخلاق بهاءها، وللإيمان جماله، وللإنسانية دفئها المفقود.
نسأل الله أن يوفقنا إلى أحسن الأخلاق والأعمال، وان يجنبنا سيئهما!
ودمتم سالمين!