عدن في زمن الفن الجميل: المرشدي وقاسم... حين كانت الأغنية تُولد من الشعر والحلم
(أبين الآن) كتب: محفوظ كرامة
في كل جلسة مع الأستاذ والصديق عبد الفتاح الشوافي، أجد نفسي أمام نافذة مشرعة على زمن عدن الذهبي، حين كانت المدينة في خمسينات وستينات القرن الماضي تعيش أوج حركتها الثقافية والفنية والأدبية. كانت عدن آنذاك منارة للتنوير، ومسرحًا مفتوحًا للإبداع، حيث تلاقت الكلمة واللحن والصوت في سيمفونية حضارية لا تزال أصداؤها تتردد حتى اليوم.
يركز الشوافي في حديثه على رمزين من رموز تلك المرحلة: الفنان والموسيقار أحمد بن أحمد قاسم، والفنان المثقف محمد مرشد ناجي. كان لكل منهما حضوره الطاغي في الحفلات الموسمية، لا سيما في عيدي الفطر والأضحى، حيث كانت الجماهير تنتظر جديدهما بشغف، وتتنافس الأحياء العدنية في احتضان حفلاتهما.
جمهور الفن بين كريتر والشيخ عثمان
يشير الشوافي إلى أن الفنان أحمد قاسم كان له جمهور متعصب، يشبه جمهور كرة القدم، يتمركز في كريتر والمعلى والتواهي، بينما كان جمهور المرشدي يتركز في الشيخ عثمان والمنصورة ذات الكثافة السكانية. ومع ذلك، كان لكلا الفنانين محبون في كل أرجاء عدن، حيث كانت حفلاتهما الموسمية مساحة لعرض الأغنيات الجديدة التي تمتاز بجودة فنية عالية، نتيجة التحضير الدقيق واختيار الكلمات الشعرية البليغة.
الشعراء يتسابقون على صوتين
كان الشعراء يتسابقون لنيل شرف غناء أحد أعمالهم على صوت المرشدي أو قاسم. ومن أبرز هؤلاء الشعراء: لطفي جعفر أمان، محمد سعيد جرادة، عبدالله فاضل، محمد علي لقمان، محمد عبده غانم، أحمد الجابري، عبدالله سلام ناجي، أحمد شريف الرفاعي، الدكتور سعيد الشيباني، عبدالله هادي سبيت، مهدي حمدون. هؤلاء كتبوا قصائد خالدة، منها:- "نهاية حب" للشاعر أحمد شريف الرفاعي، التي غناها المرشدي:
```
يلي انكرتي الهوى والحب انكرتي المحبة
كنت قبل اليوم بقلبي
حب ما كان يخطر بظني
حب يحير وحب يغير
حب يا روحي
شل عقلي مني
```- "صلاة قلب" من كلمات محمد علي لقمان- "هي وقفة" لمحمد سعيد جرادة وهي أول أغنية يغنيها المرشدي باللغةالعربيةالفصحى - "قطفت لك كاذي الصباح بكمه" لعبدالله سلام ناجي- "يا نجم يا سامر" للدكتور سعيد الشيباني- "لاوين إنا لاين" لعبدالله هادي سبيت- "أخضر جهيش" و"يا غارة الله منك" لأحمد الجابري
"مش مصدق": تحدٍ فني بين قاسم والمرشدي
من المواقف الفنية اللافتة، أن الشاعر لطفي جعفر أمان قدم قصيدته "مش مصدق" للفنان أحمد قاسم، ثم أعطاها لاحقًا للمرشدي، الذي اعتبر الأمر تحديًا فنيًا. فقام كل منهما بتقديمها بطابعه الخاص: المرشدي بصوته العدني المميز، وقاسم بأسلوبه المصري الشرقي، فكانت النتيجة أغنية مزدوجة الهوية أبهرت الجمهور وانتشرت في الساحة الفنية.
قصة بامطرف: شاعر ينتظر الفرصة
ومن القصص الطريفة التي رواها الشوافي، أن الشاعر الكبير عبدالقادر بامطرف كان يحلم أن يغني له المرشدي، لكنه كان يخشى أن لا يجد قبولًا. وفي أحد الأيام، اصطحبه الكاتب المعروف محمد سعيد مسواط، صاحب أكبر مكتبة في كريتر، إلى المرشدي، حاملين أول عمل غنائي لبامطرف بعنوان "خلاني وراح". وما إن قرأها المرشدي حتى أعجب بها ووافق على تلحينها، وكانت فرحة بامطرف لا توصف.
حفلات العيد: طقس فني سنوي
كان موسم عيد الفطر المبارك مخصصًا لحفل المرشدي، فيما كان عيد الأضحى موعدًا لحفل أحمد قاسم. وكانت هذه الحفلات بمثابة مهرجانات فنية يشارك فيها فنانون آخرون مثل محمد محسن عطروش، صباح منصر، أحمد علي قاسم واسمهان عبد العزيز ومنيرة شمسان وفتحية الصغيرة وغيرهم. وكانت الأغنية العدنية في تلك الفترة تتطور بوتيرة متسارعة، مدفوعة بتجارب موسيقية جديدة، ودعم مجتمعي للفن والمبدعين.
عدن... حين كانت واحة المبدعين
كانت عدن في تلك الحقبة واحة للمبدعين، ومركزًا ثقافيًا مفتوحًا على العالم. لم تكن الأغنية مجرد وسيلة ترفيه، بل كانت مشروعًا ثقافيًا متكاملًا، يبدأ من القصيدة، ويمر عبر اللحن، ويصل إلى الجمهور المتذوق، الذي كان شريكًا في صناعة الذائقة.كان الجمهور في تلك الحقبة الفنية يمتلك حسا فنياً ووعيا ثقافياً يستطيع أن يميز بين الجيد والردئ ويقدر جودة العمل الفني ،كلمات ولحن وأداء وبالتالي كان الجمهور شريكاً في صناعة المشهد الفني فلم يكن متلقي سلبي بل كان له دور في تشكيل الذوق العام من خلال تفاعله مع الأعمال الفنية وانتقاده وتشجيعه للفنانين بل وحتى في توجيههم نحو نوعية معينة من.الاغاني والشعراء بعبارة أخرى كانت العلاقة بين الفنان والجمهور علاقة تشاركية ،حيث ساهم الجمهور في تحديد ملامح الأغنية العدنية وكان جزءا من نجاحها وانتشارها ماجعل تلك المرحلة التاريخية تعرف بزمن الفن الجميل


