وقفة لأقلام أدبية على ضفاف الكلمة المضيئة.
بقلم | أيمن مزاحم
في زحمة الحياة وضجيجها، حيث تتسارع الخطوات وتتلاحق الأنفاس، تبقى مساحات ساكنة تتنفس هدوءًا من نوع آخر. هنا، على ضفاف الورق البكر، يقف الأدباء وقفة تأمل، ليست مجرد استراحة محارب، بل هي غوص عميق في بحر اللغة، ونداء خفي لاستنهاض الروح الكامنة في كل حرف. إنها وقفة لأقلام أدبية.
فحين يصحو اليراع، يصبح القلم حينها ليس مجرد أداة يتبعها خطوط الحبر، بل هو وتر حساس يعزف سيمفونية الفكر والشعور، وقفة الكاتب ليست توقفًا عن الكتابة، بل هي مرحلة تخمير للرؤى والأفكار، كالنبيذ الذي لا يطيب إلا بالصبر، يصحو اليراع فيها من سبات الروتين، ليحتضن قضية، يتشرب حكاية، أو يلامس جرحًا إنسانيًا عميقًا إنها اللحظة التي يُخلع فيها الكاتب رداءه اليومي ليرتدي عباءة السارد العارف، الذي يرى ما لا يراه غيره.
الأدب الحقيقي هو ذلك الذي يحررنا من قيود الواقع المادي، في هذه الوقفة، تسافر الأقلام عبر فضاءات التعبير اللامحدودية، فالشاعر ينسج من خيوط الدهشة قصيدة تعانق الغيم، والروائي يشيد مدنًا ورقية مأهولة بأرواح من خيال، والمقالي يفكك شفرات الفكرة ليقدمها زادًا للعقل، فدعني أسميها بأنعتاق في فضاء التعبير.
هذه الوقفة هي بمثابة تجديد للعهد بين المبدع وجماليات اللغة، يُعاد فيها اكتشاف قوة المفردة، وسحر التركيب، ووقع الجناس، يُصبح الأديب كالنحات، يُزيل الركام من حول المعنى ليُبرزه في أبهى صورة، مستخدمًا لغة ليست فقط وسيلة للتواصل، بل أيقونة بصرية وسمعية ووجدانية تغني التجربة الإنسانية، فالأدب الحقيقي لا يروي قصة فحسب، بل يزرع فيها نبضًا يُحيي القارئ معه.
ففي عصر يقدس السرعة والسطحية، تصبح وقفة الأديب هي مرساة الوعي، إنها تذكير بأن هناك ما هو أعمق من الظاهر، وأن قيمة الوجود لا تُقاس بعدد الإعجابات أو سرعة الوصول، بل بعمق التأمل وصدق التعبير، الأقلام الأدبية تدعونا للتريث، لنحتسي قهوة الفكر، ونتأمل انعكاس الذات في مرآة النص، هي التي تشعل فتيل الأسئلة الكبرى وتُبقي جذوة الفضول المعرفي مشتعلة.
فلنحتفِ بهذه الوقفة، التي تمنح الكلمة هيبتها، وتُعيد للأدب رسالته السامية، أن يكون جسرًا بين الواقع والمُتمنَّى، بين الصمت والبوح، وبين الفرد والكون.


