الكلمة الطيبة والخبيثة
في البدء كانت الكلمة، ومنذ ذلك الحين، والعالم يدور في فلكها. كلمة تُنير، وأخرى تُظلم. كلمة تُحيي قلبا ميتا، وأخرى تميت أمة حيّة. وبين الكلمتين تُكتب حياة الإنسان، ويُرسم مصيره، وتُوزن صحيفته.
والله جعل للكلمة سلطانا مهيبا؛ تُقوّم بها القلوب، وتُشفى بها الجراح، وتُرفعُ بها الأمم، كما قد تُذل بها الرقاب، وتُشعل بها الحروب، وتُهدم بها البيوت؛ فما هي الكلمة؟ أهي صوت عابر؟ كلا؛ بل إنها ترجمان القلب، وعنوان العقل، ورائحة الروح. هي عقد يُوثق، وبيع يُنعقد، وإيمان يُعلن. وكفى أن تكون أعظم كلمة في التاريخ، هي كلمة التوحيد: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلٰهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد: 19].
الكلمة الطيبة صدق يزرع الأمل، ونصح يهدي إلى الخير، وبِشر يخفف الهموم. هي نبضة من قلب مؤمن، لا من لسان متكلف؛ فالإيمان كلمة، والتقوى كلمة، والذكر كلمة، والقرآن كلّه كلمات.
قال تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فاطر: 10]. ولا يصعد إلى السماء إلا الطيب الصادق، الخارج من قلب نقي.
وقد صوّرها القرآن مشهدا بديعا حين قال: ﴿كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ [إبراهيم: 24]؛ فالشجرة لا تُثمر إلا إذا كانت جذورها سليمة، وكذلك الكلمة لا تُثمر إلا إذا خرجت من قلبٍ سليم.
الكلمة الطيبة تُعيد بناء النفوس، وتُرمّم العلاقات، وتبني جسور الثقة بين الناس. هي كلمة تثبيت لشاب تائه، وكلمة تشجيع لطالب متعثر، وكلمة حنان لامرأة مكلومة. قال الحسن البصري: “الكلمة الطيبة صدقة هينة على أهلها، ثقيلة في ميزانها”؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والكلمة الطيبة صدقة». هي صدقة بلا مال، ولا جهد، ولا كلفة؛ لكنها ترفعُ العبد عند الله درجات.
كما أن للكلمة الطيبة نورا؛ فإن للكلمة الخبيثة ظلمة خانقة. إنها ليست مجرد لفظ عابر،؛ بل سهم مسموم، وريح عاصف، قد تهدم ما تبنيه الأجيال. هي الكذب، والبهتان، والسخرية، والنميمة، والتشهير... قال تعالى: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ [إبراهيم: 26]. هي شجرة بلا جذور، بلا ظل، بلا ثمر... وهكذا الكلمة الخبيثة؛ تعيش لحظة على اللسان، وتبقى جرحا في القلوب سنين!
وفي زماننا تضاعف خطرها، فصارت تُرسل في ثوان إلى ملايين الناس؛ خبر كاذب قد يشعل فتنة، أو يُسقط بريئا، أو يُفسد مجتمعا. وصار بعض الناس يُطلقون الكلمات كما يُطلقون الرصاص؛ بلا ورع، بلا فكر، بلا وعي... قال الشاعر:
جِراحاتُ السِنانِ لَها التِئامٌ *** وَلا يَلتامُ ما جَرَحَ اللِسانُ
ومن خطورة اللسان؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار»؛ فالقلب إذا امتلأ غلا؛ نطق غيبة. وإذا امتلأ كِبرا؛ نطق سخرية. وإذا امتلأ حقدا؛ نطق تشهيرا...
والقرآن وضع القاعدة الكبرى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]. والنبي صلى الله عليه وسلم وضع الميزان الأصدق: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»؛ فقبل أن تنطق؛ اسأل نفسك: هل هو حق؟ هل فيه نفع؟ هل يرضي الله؟ فإن لم يكن خيرا محضا؛ فالصمت عبادة. قال عمر بن عبد العزيز: “من عد كلامه من عمله؛ قلّ كلامه إلا فيما يعنيه”؛ فما أجمل أن تُزين كلماتنا بالرفق، والتواضع، والبِشر، والسلام...
نحن نعيش اليوم في زمن تتدفق فيه الكلمات كما يتدفق السيل الجارف؛ كلمة تُكتب، وأخرى تُسجّل، وثالثة تُنشر في لحظة إلى مشارق الأرض ومغاربها. ومع هذا التدفق؛ تتضاعف المسؤولية.
فواجبنا الأول: التثبت قبل النشر. قال تعالى: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6]؛ فلا تضغط "إرسال" قبل أن تسأل نفسك: هل هو حق؟ هل يرضي الله؟ هل يُصلح أم يُفسد؟
وواجبنا الثاني: صيانة أعراض الناس؛ فالكلمة التي تهتك ستر مسلم قد تُهوي بصاحبها في النار.
وواجبنا الثالث: نشر الكلمة الطيبة كعبادة يومية؛ فرب كلمة تُنقذ إنسانا من اليأس، وتعيده إلى طريق الله!
وواجبنا الرابع: حماية المجتمع من الشائعات؛ فالكلمة اليوم تُشعل حربا، وتُسقط الثقة، وتُدمّر العقول...
وواجبنا الخامس: صناعة لغة إيجابية في بيوتنا ومؤسساتنا؛ فكلمة الرحمة تُنشئ بيتا سعيدا، وكلمة التشجيع تُخرّج طالبا متفوقا، وكلمة الاحترام تُبني بها أمةٌ متماسكة.
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يمسك بلسانه ويقول: “هذا الذي أوردني الموارد”. وكان عمر رضي الله عنه يقول: “من كثر كلامه كثر سقطه”. وكان الإمام مالك إذا سُئل في مسألة خاف منها، صمت طويلا؛ قبل أن يجيب؛ خشية أن يقول ما لا يرضي الله.
ولقد قامت الدعوة الإسلامية على كلمة طيبة: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا". وبكلمة وحّدت القلوب، وبكلمة نهضت الأمة، وبكلمة غيّرت التاريخ.
والكلمة قوة تبني أو تهدم، ترفع أو تسقط، تُنير أو تُظلم. قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾. كل كلمة تُكتب، تُرفع، وتُعرض يوم القيامة؛ فاجعل كلماتك مما تحب أن تلقى الله به.
والكلمة الطيبة عبادة لا تحتاج مالا ولا منصبا، يكفي أن تُزكّي نيتك وتُرقّق قلبك، فتكون سفيرا لكلمتك قبل فعلك؛ فالناس يقرأونك قبل أن يسمعوا حجتك، وينظرون إلى لسانك قبل عبادتك.
فطهّروا ألسنتكم، وزكّوا قلوبكم، وانشروا الكلمة الطيبة في بيوتكم ومجالسكم ومنصاتكم؛ فهي عبادة جارية، وأثر باق. وتذكّروا دائما أن الكلمة أثر لا يُمحى، وأن اللسان سلاح ذو حدّين؛ فاختاروا ما تُحبون أن تلقوا الله به؛ فكم من كلمة أحيت نفسا! وكم من كلمة أطفأت نور حياة كاملة!
طيب الله كلماتكم! ودمتم سالمين!


