حين يرى القلب ما لا تراه العيون!

في زمن تتزاحم فيه الصور، وتضج الشاشات بالألوان، ويُغري البريق العابر الأبصار؛ يبقى الجمال في الإسلام حقيقة أعمق من مجرد منظر حسن أو زينة عابرة؛ إنّه جمال يفتح البصيرة؛ قبل البصر، ويُشرق في الروح؛ قبل أن يبهج العين؛ جمال متصل بالله، ممتد من نور الوحي، ساكن في خلق الله وشرعه ولطفه...
لقد علّمنا القرآن أن الجمال ليس ترفا؛ بل آية من آيات الله الدالة على حكمته وقدرته. يكفي أن يتلو المؤمن قوله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾؛ حتى يوقن أن الكون كله لوحة بديعة رسمها الخالق بإتقان. وتزداد الروح صفاء حين يتأمل القارئ مشاهد الأرض والجبال والأنهار والثمار؛ كلها تدعوه إلى التفكر: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾. وفي السنة النبوية، يعلن ﷺ حقيقة سامية: «إن الله جميل يحب الجمال»؛ ليجعل الجمال عبادة  لا ترفا، ومسؤولية؛ لا مظهرا، وشكرا؛ لا تبذيرا.
لقد فهم الصحابة هذا العمق؛ فكان ابن مسعود يقول: “إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده”؛ لا مباهاة ولا خيلاء؛ بل امتلاء بالشكر واعترافا بالفضل.

وجمال الكون مدرسة مفتوحة لكل قلب حي؛ ارفع بصرك إلى السماء! هذه الشمس لا تتقدم على القمر، والليل لا يسبق النهار، وكلّ يسبح في فلكه بانسجام دقيق! فأيّ عقل يمرّ على هذا الإبداع ولا يوقن أن وراءه إلها عظيما؟! وانظر إلى الجبال المحسوبة وقارا، والبحار الممتدة عمقا، والزهور التي تفتح أبواب العطر كل صباح! إنّه الجمال الذي يجعل القلب يخشع قبل أن تنحني الجبهة في الصلاة.
كان السلف يعتبرون التأمل مفتاحا للإيمان، حتى قال الحسن البصري:
“تفكّر ساعة خير من قيام ليلة”؛ لأن التفكر يوقظ الروح، ويفتح نوافذ القلب على نور الله.

وجمال الإنسان إنما يكون حين يشرق القلب قبل الوجه؛ فقد خلق الله الإنسان في «أحسن تقويم»؛ لكنه لم يجعل الجمال محصورا في الملامح؛ فملامح الوجه قد تزول؛ لكن نور القلب يبقى. قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: “ما أخفى أحد سريرة إلا أظهرها الله على وجهه ولسانه”؛ فالخلق الحسن جمال، والصدق جمال، والحياء جمال، والرحمة جمال... هذه الأخلاق ليست زينة تُعلّق على الواجهة؛ بل نور ينعكس في السلوك والنظرة والكلمة...

وجمال العبادة يكون حين يسكن القلب بين يدي الله؛ فما أجمل أن يقف الإنسان بين يدي ربه! خشوع الصلاة جمال! ودمعة السجود جمال! وصوت التلاوة جمال! وطمأنينة الذكر جمال! وكذلك الصلاة حين تؤدّى بقلبٍ حاضر ليست واجبا فحسب؛ بل راحة، وصفاء، وشفاء..! والقرآن حين يُتلى بصوت جميل لا يُطرب الأذن فقط؛ بل يغسل الروح! والذكر حين يلهج به اللسان يورق القلب؛ لأنه ببساطة: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾!

وجمال العلاقات يكون حين تتصافى الأرواح؛ فالإسلام لا يكتفي بتجميل علاقة العبد بربه؛ بل يجمّل علاقة الإنسان بالإنسان؛ الجمال في الأخوّة: «إنما المؤمنون إخوة». والجمال في برّ الوالدين؛ فدمعة ابن عمر حين رأى رجلا يحمل أمه رسالة من نور.  والجمال في المودة بين الزوجين هو سكن ورحمة لا مجرد مساكنة. والجمال في الدعوة لين، ورفق، وابتسامة صادقة.. والله أمر موسى وهارون أن يقولا لفرعون نفسه: ﴿قَوْلًا لَيِّنًا﴾. إنه جمال يصنع إنسانا راقيا، رحيما، لطيفا، قريبا من القلوب.

وليس كل من ينظر يرى، ولا كل من يحيى يحسّ؛ هناك عوائق تُطفئ نوافذ الروح:
• قسوة القلب؛ فإذا قسا القلب لم يعد يرى جمال الكون ولا نور العبادة.
• الغفلة؛ فكم من آية نمرّ عليها كل يوم ولا نلتفت إليها!
• اتّباع الشهوات؛ إذ تغطي زخارف الدنيا على إشراق الروح.
• تقليد الجمال المادي الغربي، الذي يختزل الجمال في الجسد والزينة واللهو، وينسى جمال الروح والقيم...
وشتّان بين جمال يصعد بك إلى السماء، وجمال يهبط بك إلى الهوى!

والتربية على الجمال صناعة للذوق الإيماني؛ فالجمال لا يتشكّل وحده! بل يحتاج إلى تربية ووعي. يحتاج الأبناء أن يتعلموا تذوق جمال السماء والجبال والأنهار، وجمال القرآن والذكر، وجمال الأخلاق والنقاء.
الجمال ليس متعة بصرية فقط؛ بل رسالة تربوية تبني إنسانا سويا، متوازنا، راقيا..!

ختاما؛ الإسلام دين الجمال؛ جمال الكون، وجمال الروح، وجمال الأخلاق، وجمال العلاقات الإنسانية. ومن لم يذق هذا الجمال فقد حُرم أعمق ما في الإيمان من إشراق.
إنها دعوة إلى كل قلب؛ افتح نوافذك؛ لعل جمال الله يطرق بابك! ولعل نور القرآن يجد فجوة يدخل منها! ولعل روحك تعود فترى ما لم تعد تراه عيناك! فإن الجمال الحقيقي ليس الذي يُرى! بل الذي يُشعر به.
نسأل الله أن يفتح لنا منافذ الجمال في قلوبنا، ويمتعنا بالإحساس به، ودمتم سالمين!