فكّر بعقلك وتحرر من التبعية
في زمنٍ باتت فيه العناوينُ المدوّيةُ أقوى من البراهين، و"الترندات" أبلغ من الحجج، تتسلّل إلينا أفكارٌ تُحاكي مشاعرنا، وتستدرج عقولنا، وتُطمِس تفرُّدَنا. لسنا في عصر انعدام العقل، ولكن في زمن "غسيل العقول".
لم تعد المشكلة في أن الناسَ لا يفكرون؛ بل في أن كثيرا منهم يُوكِّلون غيرهم بالتفكير نيابة عنهم، ويُسلِّمون عقولَهم إلى كلِّ ناعق يتحدث بثقة، أو كل مؤثّر يتصدّر الشاشة، فيُضخَّم الباطل حتى يُرى حقّا، ويُهمَّش الحق حتى يُظنّ تخلفا أو تطرّفا!
إن التبعية الفكرية ليست فقط أن تردّد ما يقول الناس؛ بل أن تنسى من أنت، أن تُصبح مرآة تعكس ما يُلقى إليك من غير تفكير أو نقد. وهذا تماما ما حذّر منه النبي ﷺ بقوله: «لا يَكُونَنَّ أَحَدُكُمْ إِمَّعَةً، يَقُولُ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنْتُ، وَإِنْ أَسَاءُوا أَسَأْتُ».
و"الإمّعة" هو ذاك الذي يعيش بلا رأي، بلا ميزانٍ، بلا مقاومة داخلية؛ بل هو تابع في مظهره، في فكره، في انفعالاته، وفي مواقفه!
والتبعية اليوم تتخذ أشكالا جديدة؛ ومن مظاهرها:
- الانبهار بكل ما هو غربي دون نظر في جوهره.
- تسليم العقل لمؤثرين ومشاهير لا علم لهم ولا وعي.
- اعتماد "المكرر" و"المنتشر" بدلا من التفكير والتحقق. وهنا نستحضر قوله تعالى:و﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّبِعُوا۟ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَـٰيَـٰكُمْ ۚ وَمَا هُم بِحَـٰمِلِينَ مِنْ خَطَـٰيَـٰهُم مِّن شَىْءٍ ۚ إِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ﴾؛ فهي آية تُجسّد خديعة التبعية: يطلبون منك السير خلفهم، ويُطمئنونك بالكذب أنهم سيتحمّلون عنك النتائج، بينما الواقع أنهم يتخلّون عنك ساعة الحساب.
"الحرية الفكرية" في الإسلام ليست شغبا ولا تمردا؛ بل هي مسؤوليةٌ أخلاقية وعقلية، قائمة على:
- تحكيم العقل والنص سويا؛ لا تغليب أحدهما بلا دليل.
- التحقّق من المصدر قبل التسليم بأي معلومة.
- احترام الرأي الآخر، والنظر في حجته؛ لا في هويته.
- اتباع الدليل؛ لا الشهرة، ولا العاطفة، ولا الجماعة.
وقد جسّد ذلك الإمام الشافعي، بقوله العظيم:!"ما ناظرت أحدًا إلا أحببت أن يُظهر الله الحق على لسانه"؛ إنه لا يبحث عن انتصارٍ شخصي؛ بل عن انتصار الحقيقة، ولو خسر الجدل.
والإعلام لا يدخل بيوتنا فحسب؛ بل يدخل عقولنا. وتكرار الفكرة اليوم، يساوي إقناعا. حتى لو لم تُفكِّر فيها، فإن كثرة تكرارها تُثبّتها في لاوعيك، شيئا فشيئا؛ إذن تُغسَل العقول:
- بالتكرار الممنهج؛ حتى تكاد تنسى أنك لم تكن تقتنع.
- بالعاطفة والانفعال؛ دون منح العقل فرصة للوزن والتقدير.
- بترهيب المخالف؛ ووصمه بالتطرف، أو الجهل، أو الرجعية...
-:بتقديس الشخصيات، وجعلهم معيارا للحق؛ لا العكس.
وهنا يعلو صوت الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قائلاً: "اعرفِ الحقَّ تعرفْ أهلَه، ولا تعرفِ الرجالَ بالرجالِ"؛ فلا تجعلْ من محبة شخصٍ بابًا لتجاهل الباطل الذي يقوله، ولا تجعلْ من كرهك لآخر سببا لرفض الحق إن نطق به.
وتربية الأبناء اليوم مسؤولية عظيمة. وفي عالم تتصارع فيه الرسائل، وتختلط فيه القيم، نحتاج لتربية أبناءٍ يسألون؛ لا يردّدون، يناقشون؛ لا يُلقّنون، يبحثون؛ لا يتبعون الصدى؛ فعلّم ابنك أن يسأل: "لماذا؟"، علّمه أن يحترم الرأي الآخر؛ لا أن يخافه، اغرس فيه أنّ الحق لا يرتبط بالعدد، ولا بالضجيج؛ بل بالحجة والصدق.
انظر إلى إبراهيم عليه السلام؛ كيف سأل، وفكّر، وجادل، ورفض أن يعبد أصناما ورثها. وإلى الصحابة، كيف كانوا يسألون النبي ﷺ، يناقشونه، ويقترحون، ويتفكرون. وإلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو يقول على المنبر: "أصابت امرأة وأخطأ عمر".
إنها قِمم لا تُقدّس رأيَها؛ بل تُقدِّس الحق أينما وُجد.
لا تتركْ عقلَك غرضا لكل إعلامٍ! لا تكن إمعةً! كُنْ بصيرًا! كُنْ ناقدًا! كُنْ واعيًا!
اسأل! ابحث! ناقش! دافِع! وارجع إلى الحق متى بان لك..! ولكن دائما ببصيرة هذه الآية: ﴿إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـُٔولًا﴾.
ودمتم سالمين!