السفر أيسره قطعة من جهنم
لعل في السفر غربة ووحشة ؛ إذ تجد نفسك في مجتمع آخر غير مجتمعك الذي ألفته ، وتعايشت معه ، وتأثرت بسلوكه ، ارتويت من ثقافته ، وامتزجت بهويته، جمعك به فلكلور واحد ، ولغة واحدة ، عشت مره وحلوه ، تربيت في جغرافيته، وعبثت وأنت طفل معه في حقول الزراعة، وتعلمت العلوم مع أهلك وناسك في صفوف الدراسة، عرفت الله معهم في المساجد وآداب الولاء والطاعة، وربما رعيت الأغنام وتجولت في أسواق الشراء والباعة، واكتسبت كثيرا من الأصحاب والأصدقاء، ولك خصوم وحلفاء...
غير أن السفر أمر آخر ؛ فربما تجد نفسك في مجتمع ، هويته غير هويتك ، وثقافته لاتمت بصلة لثقافتك ، لغته غير لغتك ، ودينه غير دينك ، وأخلاقه غير أخلاقك ، الأمر الذي يجعلك في زنزانة مظلمة من الغربة الموحشة ، وهنا سوف تستذكر قول المتنبي :
وشر بلاد بلاد لاصديق بها ** وشر مايكسب الإنسان مايصم
وتقول رحمك الله يامتنبي ، كم كنت صادقا إذ قلت هذا البيت .
لكنك بالصبر واقتحام الأهوال ، وعدم الاعتراف بالمستحيل ، والأخلاق الرفيعة التي تجعل منك نموذجا راقيا في حلك وترحالك تستطيع أن تتغلب على الصعاب ، وتتكيف مع المستجدات ، وربما تكتسب الكثير من المعارف ، وتظفر بالخير الوفير ، وفي هذا قال الشافعي :
سافر ففي الأسفار خمس فوائد تفريج هم واكتساب معيشة وعلم وتأديب وصحبة أماجد
ومع هذا فإن السفر يظل أمرا مرعبا ، وطريقا موحشا ، وصحراء واسعة لاتعلم شيئا من مجاهيلها ، وغابة مظلمة لاتعرف شيئا من أصناف وحوشها ، رغم التقدم العلمي ، والتوسع التكنولوجي ؛ إذ توفرت وسيلة النقل المريحة ، ووسائل التواصل التقني التي جعلت من العالم قرية واحدة ، وغير ذلك من أمور الحداثة ، لكن السفر يظل أيسره قطعة من جهنم ...


