بين القوة الناعمة والحرب الناعمة: أبعاد معركة اليمن غير المرئية
بقلم السفير د. محمد قباطي
من سقوط العاصمة إلى سقوط المعنى
منذ أن سقطت صنعاء بيد الميليشيا الحوثية في سبتمبر 2014، انشغل اليمنيون بخرائط الجبهات، بينما كانت أخطر معارك الحوثية تُدار في اللغة والوعي. فالميليشيا خاضت حربها الناعمة قبل حربها الصلبة، وبدأت بتغيير المفاهيم لا بهدم المؤسسات، وبإعادة صياغة الخطاب لا بتعديل خرائط السيطرة.
القوة الناعمة — بمعناها الدولي — هي قدرة الدول على الجذب عبر الثقافة والتعليم والدبلوماسية. لكن الحوثية أعادت تعريفها وحوّلتها إلى حرب ناعمة: لا تُقنع بل تُخضِع، ولا تجذب بل تُشوّه، ولا تبني الجسور بل تُفكك بنية الدولة. وهكذا أصبح الخطاب — لا السلاح — هو أداة السيطرة الأولى.
مراكز “الخبرة” كقذائف لغوية
برزت خلال الحرب مراكز ومنصّات تتقدّم تحت لافتة “الخبرة المستقلة” وراية “الحياد”، لكنها تعمل فعليًا كأذرع ناعمة تُعيد تشكيل المشهد اليمني بما يخدم الانقلاب. أبرزها “مركز صنعاء”، الذي ظهر فجأة بعد الانقلاب، وتركّز جهده على هندسة المفردات بدل تحليل الوقائع: فحوّل “الانقلاب” إلى “سلطة أمر واقع”، و“الميليشيا الحوثية” إلى “جماعة أنصار الله” أو “السلطة في صنعاء”، وهمّش مدلول “الحكومة الشرعية المعترف بها دوليًا” عبر تعابير مثل “الحكومة الرسمية” أو “الطرف الآخر”.
كما ضخّم أخطاء خصوم الحوثيين وأعاد تقديم مشروع استعادة الدولة كأنه مجرد “نزاع بين أطراف يمنية”، لا جريمة انقلاب مكتملة الأركان. وهذه ليست أبحاثًا، بل هندسة سردية ممنهجة تُعيد تشكيل صورة اليمن لدى المانحين والدبلوماسيين، وتدفع نحو تطبيع الانقلاب باعتباره حقيقة سياسية قائمة.
وهكذا خسرنا المفردات الأساسية: تحوّلت “الميليشيا” إلى “سلطة الأمر الواقع”، و“الانقلاب” إلى “نزاع داخلي”، وتحوّل الاستيلاء القسري على الدولة إلى “طرف سياسي” يُساوى بالشرعية. وما تخسره الدولة في المعنى لا تستعيده بالقوة؛ فالمفهوم هو أولى جبهات السيادة، ومن يربح الرواية يربح القرار.
لماذا عجزت الشرعية؟
يتساءل كثيرون: لماذا لم توقف الشرعية هذا الاختراق الناعم رغم أنها — نظريًا — صاحبة الترخيص والقرار؟
السبب الأول أنها لم تكن تمتلك أدوات الدولة الموحدة: العاصمة خارج السيطرة، المؤسسات منقسمة، المنافذ موزعة بين قوى الأمر الواقع، وأي محاولة لضبط عمل المنظمات كانت تُفسَّر دوليًا كعرقلة للعمل الإنساني.
لكن هناك سببًا آخر لا يقل خطورة: غياب الدولة عن فضاء القوة الناعمة.
فالإعلام الرسمي ظل ضعيفًا ومتقطعًا، لا يخاطب الرأي العام الدولي ولا يصنع رواية مضادة. والبعثات الدبلوماسية — المنتشرة في أكثر من ستين دولة — لم تتحول إلى أدوات تأثير أو حضور فاعل في الجامعات ومراكز الأبحاث والإعلام الغربي، خصوصًا في واشنطن ولندن وبروكسل.
أما مجلسا النواب والشورى فغابا تمامًا عن الدور البرلماني الخارجي؛ بلا لجان صداقة فعّالة، بلا حضور في المنتديات، ولا دفاع عن الرواية الوطنية في البرلمانات الغربية التي تُصنع فيها السياسات. وهكذا لم يكن العجز فقط عن ضبط الداخل، بل عن خوض المعركة في فضاء دولي تُحسم فيه الحرب الناعمة كل يوم.
الحرب الناعمة أخطر من الرصاصة
المعركة التي خسرنا فيها كثيرًا لم تكن معركة الجغرافيا، بل معركة السرد.
الحرب الناعمة أخطر من الصاروخ لأنها تسرق العقل قبل أن تُسقط الجسد؛ تعيد تعريف الجريمة بلغة باردة وتمنح الانقلاب شرعية زائفة، بينما تجرّد الدولة من حقها في تعريف ذاتها.
ولمواجهة ذلك، لا تحتاج الشرعية إلى صدام، بل إلى استعادة سيادة الخطاب عبر:
* مرصد وطني للتمويلات والتضليل،
* إطار قانوني ينظم عمل المنظمات الأجنبية،
* بناء قوة ناعمة رسمية عبر الإعلام والتعليم والدبلوماسية،
* وتوحيد الخطاب الوطني في مواجهة الحرب الناعمة.
من يربح الرواية… يربح الدولة
لم تُحسم بعد معركة الأرض، لكن معركة الوعي تُحسم كل يوم.
ومن يكسب المفهوم يكسب الرواية، ومن يكسب الرواية يكسب المستقبل.
لذلك فإن حماية الوعي ليست تفصيلًا، بل شرطًا من شروط استعادة الدولة.


