للذاكرة والتاريخ.. الرئيس العليمي وبناء الدولة في زمن ما قبل الدولة
بقلم: مصطفى محمود
في حياة الدول لحظات تكون فيها النجاة أكبر من الإنجاز، لأن البقاء نفسه يتحول إلى معادلة قوة.. ولعلّ ما فعله الرئيس رشاد العليمي في سنوات قيادته الأولى يُشبه هذا النوع من الإنجاز الذي لا يعلن نفسه، لكنه يُبدّل اتجاه الريح ببطء ومثابرة، كحركة يد تثبّت ميزانًا اختلّ لعود طويلًة.
في اليمن، لم تكن المشكلة غياب الدولة، بل كثرة من حاولوا احتكار تعريفها.. فـ(العليمي قبل إعادة البناء منع الآخرين من رسم شكل الدولة نيابة عن الشعب اليمني)، وهذا هذا بحد ذاته إنجازًا.
ولكي تمنع انزلاق الوطن إلى هندسة خارجية تُفرض من فوق، كان على العليمي أن يعيد الإمساك بالحد الأدنى من القرار السيادي، حتى قبل إعادة بناء المؤسسات.. وهنا يكمن الإنجاز الثاني (إيقاف مسار تدويل شكل الدولة)، وإعادة توجيه البوصلة نحو الداخل، مهما كان الداخل مجروحًا ومليئًا بالتشققات.
قد يُقال إن ما تحقق ليس دولة كاملة ولا نصفها.. هذا صحيح، لكنه أيضًا ليس ذلك الفراغ الذي تلتهمه القوى الإقليمية والدولية عادة حين تستشعر ضعف الأطراف المحلية.. ما فعله العليمي هو تحويل الفراغ من اللنهب إلى مساحة قابلة للحساب.. وهذه تفاصيل صغيرة في ظاهرها، لكنها في علم إدارة الأزمات تُعدّ نقاط انعطاف لا يراها إلا من يعرف من أين تبدأ هندسة الدولة.
لم يكن الرجل يملك ترف الشعارات.. تحرك بأدوات محدودة، وسط شبكة مصالح معقّدة، وبداخل مشهد سياسي هشّ إلى درجة تُربك حتى أجهزة استخبارات الدول الكبرى.. ومع ذلك، استطاع – بقدر محسوب – أن يوقف الانحدار، وأن يعيد ما يمكن اعتباره “كتلة صلبة” للشرعية، مهما كانت هذه الكتلة صغيرة أو ناقصة.
المفارقة أن النجاح هنا لا يقاس بالسرعة، بل بالقدرة على تجنّب الانفجار.. ففي السياق اليمني، ليس المطلوب انتصارًا كاملاً، بل منع الهزيمة الشاملة.. وكيسنجر كان يرى دائمًا أن منع أسوأ السيناريوهات هو بحد ذاته إنجاز استراتيجي، حتى لو لم يصفّق له الجمهور.
وهذا ما يبني عليه العليمي.. مسار بطيء، غير متوهّج، لكنه يعيد ترتيب عناصر القوة حول مركز سياسي واحد، ويمنع الأطراف من الخروج عن المدار.. وفي بلد كاليمن يتشظى بسرعة الرمل المتطاير.. تُعدّ هذه القدرة على إعادة الإمساك بالمركز واحدة من أكثر المهام صعوبة.
قد يظهر للناس أن المشهد اليمني ما يزال باهتًا.. لكن خلف هذا البهتان، تتشكل طبقة رقيقة من التوازنات الجديدة التي تحاول تثبيت الأرض الذهنية للدولة، لا صورتها فقط. وهذه الطبقة الهشة اليوم يمكن أن تكون قاعدة صلبة لاحقًا إذا استُكملت بعقل العليمي البارد وإرادتة طويلة النفس.
إنجاز الرئيس العليمي ليس حدثًا واحدًا، بل طريقة في التعامل مع الفوضى: عقلنة الانهيار، وتحويله من كارثة مفتوحة إلى مسار يمكن التحكم بإيقاعه.. هذا النوع من القيادة لا يصنع عناوين، لكنه يصنع فرصًا.. وفي التاريخ، الفرص أهم من الشعارات.


