الرجل الزئبقي: حين يلتقي الفن الشعبي بعبقرية الكيمياء

بقلم: أ.د مهدي دبان 

لطالما كان الزئبق (Hg) رمزاً للتحول والغرابة؛ معدن يتلألأ ببريق فضي ويأبى أن يستقر، تماماً كالشخصيات المراوغة التي جسدتها الذاكرة الشعبية. في الأعمال الفنية مثل مسلسل علي الزيبق المحبب لقلبي  (للراحلين فاروق الفيشاوي و ابوبكر عزت)، حيث نجد البطل يتملص من المكائد وينجو بدهائه كما تنفلت قطرات الزئبق من بين الأصابع. هذا التشبيه لم يأت من فراغ، بل يستند إلى خصائص علمية أصيلة تجعل الزئبق حالة فريدة بين المعادن، وتجعله أقرب المواد شبهاً بالإنسان الذي لا يُمسك ولا يُدرك بسهولة.

فالزئبق، ذلك "المعدن السائل"، يرفض الصلابة كبقية الفلزات نتيجة "التأثيرات النسبية" التي تجعل إلكتروناته الثقيلة تدور بسرعات هائلة وتنكمش مداراتها- محققة نسبية اينشتاين- فتضعف الروابط بين ذراته. هذه الظاهرة العلمية تُترجم إنسانياً إلى صفة اللااستقرار؛ فـالرجل الزئبقي يفقد "صلابته" عند اللزوم، يتغير ويتحول، ولا يمكن تثبيته على حال. وعندما يُسكب الزئبق ويتجزأ إلى قطرات صغيرة لامعة تنزلق بلا توقف، نرى صورة أخرى من المراوغة البشرية؛ فهو يشبه الشخص الذي ينقسم حيلة بعد أخرى، يراوغ، ويهرب من الالتصاق بأي خطأ أو مسؤولية، ويبقى عصياً على الإمساك كما تبقى قطرات الزئبق عصية على القبضة.

ويبقى الزئبق استثناء بين المعادن، تماماً كما يبقى الرجل الزئبقي استثناء بين البشر. فهو الذكي المختلف، الذي يكسر القواعد ويعيد تشكيل الواقع لصالحه، كما كسر الزئبق القاعدة التي تقول إن الفلزات صلبة. إن هذا الربط الشعبي بين خواص عنصر طبيعي وسلوك إنساني مراوغ يكشف عن عبقرية الملاحظة البشرية، ويجعل من الزئبق مرآة تُرى فيها دهاء الإنسان وذكاؤه وتحولاته. وفي نهاية المطاف، يظل هذا التشبيه شهادة على أن المواد من حولنا ليست مجرد عناصر، بل قصص تعبر عن الإنسان وفنه وحيلته في مواجهة الحياة.