جبهات الوعي حرب تدور بلا طلقة
نعيش اليوم زمنا تكسّرت فيه الجبهات التي كنا نعرفها! لتولد جبهات أخرى! لا تُرى فيها الدبابات، ولا يُسمع فيها أزيز الرصاص... لكنها تُسقط الأمم سقوطا صامتا، أشد فتكا من السيوف حين تقطع الرقاب؛ إنها حرب الوعي، حرب العقل، حرب الهوية...
لم يعد الصراع صراع حدود، ولا جغرافيا، ولا جيوش؛ بل أصبح صراعا على العقول والقلوب. ولم تعد الأمة تُستهدف في أرضها أولا؛ بل في يقينها، ووعيها، ووحدتها، وبوصلتها.
والأمة اليوم ليست محاصرة بالجيوش؛ بل محاصرة في فكرها وإعلامها وقيمها؛ يراد لها أن ترى الباطل حقّا، والحق باطلا، أن تشكّ في قرآنها وسُنّة نبيها وتاريخها وكل ما صَنَع مجدها...
وقد كشف رسول الله ﷺ هذا الزمن بقوله: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ». لم تكن الفتن يوما دماء فقط؛ بل فتن وعي وإعلام وتضليل...
دخلنا عصرا جديدا من الصراع العالمي؛ لم تعد القوى الكبرى بحاجة إلى احتلال أرضك ما دامت تستطيع احتلال عقلك.
تحوّل الصراع من ساحات الجيوش إلى ساحات الإدراك؛ ضرب الهوية، وتشويه الوعي، وتحطيم الثقة بين الشعوب، وصناعة صراعات داخلية لا تحتاج إلى جندي خارجي واحد؛ فإذا سقط الوعي؛ سقطت الأمة بلا طلقة واحدة.
وتكنولوجيا اليوم صنعت ثورة في التضليل؛ ما كان يُصنع في سنوات؛ يُصنع في ساعات. وما كان يحتاج إلى جيوش؛ يكفي فيه هاتف وإشاعة وصورة مجتزأة..!
لقد كشفت التقارير الرسمية الصادرة عن منصة (X) في 2023 و2024 عن شبكات ضخمة من الحسابات تُدار من غرف استخباراتية لإشعال الفتن في العالم العربي؛ آلاف الحسابات بأسماء عربية وهمية، كلها تدار من جهة واحدة، وترتبط بوحدة 8200 الصهيونية المتخصصة في الحرب الإلكترونية. وأهدافها واضحة: تمزيق الأمة، إسقاط ثقة الشعوب بعلمائها ورموزها، الطعن في القرآن والسنة، بثّ الإلحاد، صناعة الكراهية بين الشعوب... وتحويل العربي إلى عدو للعربي، والمسلم إلى عدو للمسلم.
قال تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾، وقال: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾؛ فما أصدق القرآن حين يكشف أدوات الحرب الإعلامية؛ غاية العدو، وواجب المسلم.
لم ينجح الأعداء يوما في إسقاط الأمة من الخارج؛ فانتقلوا إلى تفجيرها من الداخل:
- فتنة مذهبية: تضخيم الصراع السني–الشيعي حتى تتبدل الأخوة إلى خصومة.
- عصبيات قومية: عرب وأمازيغ، فراعنة وعرب... كل خطاب يُبث لتفكيك الجذور التي جمعها الإسلام.
- ضرب الهوية الإسلامية: تحويل الطعن في القرآن والسنة إلى “حرية رأي”.
- تغذية الكراهية بين الشعوب: تهجم دول على أخرى بقلم حسابات مزيفة لا وجود لها.
- إسقاط الرموز: لأن الأمة إذا سقطت رموزها أصبحت بلا نجم يهديها.
وكل ذلك يحقق قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ﴾.
استهدفوا الذاكرة الجماعية؛ بتشويه التاريخ، واللغة العربية؛ لأنها وعاء القرآن. واستهدفوا الرموز؛ لأنها أعمدة الوعي. وايتهدفوا القيم؛ لأنها آخر حصون الأمة.
وجميع ذلك لخدمة هدف واحد:
إسقاط الأمة من الداخل دون طلقة واحدة.
وأخطر ما يستهدفه العدو اليوم ليس الأرض؛ بل وعي الأمة؛ ولذلك لا بد من:
- غرس الوعي القرآني الذي يمنح البصيرة قبل الحركة.
- بناء الهوية الإسلامية الجامعة التي لا تفرقها لهجة ولا لون.
- فهم سنن الصراع؛ فالعداوة ليست حدثا بل سنة.
- تحصين الشباب؛ فهم الهدف الأول لهذه الحرب.
- تعزيز الأخوة العربية والإسلامية؛ فهي ليست مجاملة؛ بل درع الأمة.
وفي زمن الفتن الرقمية؛ فإن واجب المسلم هو الوعيٌ؛ قبل الكلام:
- التثبّت قبل النشر؛ فالشائعة اليوم قنبلة.
- ترك العصبيات؛ فهي نار تستعر.
- دعم الوعي؛ ومواجهة الإرجاف.
- حماية الصف الداخلي؛ فتمزيق الصف هدية للعدو.
- نشر العلم لا الجهل؛ فالوعي يبني، والشائعة تهدم.
الأمة ليست ضعيفة؛ لكنها متفرقة. وإذا زال التفرق، عاد المارد إلى وقوفه. وأشد ما يخشاه العدو أن يرى الأمة “معا”. والفتنة لا تعيش إلا في قلبٍ غافل؛ أما القلب الواعي فهو حصن لا يُقتحم.
إنها حرب الوعي، وقد آن أن نكون فيها جنود بصيرة! لا ضحايا شاشة.
فاستعينوا بالله، وعليه توكلوا؛ وهو حسبُنا ونعم الوكيل. ودمتم سالمين!


