ذكريات وشخبطات… (الحلقة الثالثة) الحكاية الرابعة: فارس الفضيلة وراية العلم
( أبين الآن) كتب: أ.د مهدي دبان
عندما أتذكر هذا الرجل، يتبادر في ذهني صورة فارس نبيل من سير أعلام النبلاء… رجل عاش شظف العيش والتهميش والجحود والنكران، لكنه لم ينحن يوماً، ولم يتخل لحظة عن دعوته الصامتة للفضيلة والصلاح والإنسانية والقيم والمعتقدات السوية. لم يكن أستاذاً فحسب… بل كان قدوة، ومربياً، وأباً حانياً في ثوب أكاديمي. وفي تلك الحقبة مر علينا أساتذة أجلاء، خطوا في حياتنا نوراً وقيماً لا تُنسى، لكن أستاذنا الفاضل الدكتور محمد بن شيبان التميمي كان مختلفاً… جاداً في محاضراته حتى تظن أنه لا يعرف الابتسام، وبشوشاً لطيفاً خارجها حتى يخيل إليك أن الحزن لم يعرف طريقاً إلى قلبه.
الحكاية الأولى معه بدأت حين كنت في سنتي الجامعية الأولى بقسم الفيزياء في كلية العلوم والآداب والتربية. كان يدرسنا إحدى المواد المشتركة مع قسم الرياضيات، وحين لاحظ تميزي استدعاني رفقة رئيس القسم حينها الدكتور عوض البكري، وطلبا مني الانتقال إلى قسم الرياضيات بحجة أن درجاتي تفوقت على طلاب الرياضيات أنفسهم. قال لي يومها: "أنت يجب أن تكون معنا… وستكون أستاذاً في هذا القسم." كان وقع تلك الكلمات عظيماً علي، وأنا ما زلت أخطو خطواتي الأولى في الجامعة، لكن رغم تقديرهما الكبير أصريت على البقاء في قسم الفيزياء لمحبتي له، وظل الدكتور بن شيبان يكرر لي حتى يوم تخرجي: "كنت يجب أن تكون معنا."
أما الحكاية التي كشفت لي عظمة الرجل حقاً فكانت حين أصبت في ركبتي وكنت لاعباً لنادي الميناء الرياضي، وقرر الأطباء إجراء عملية جراحية تستلزم السفر. أنهيت كل الإجراءات الرسمية عبر وكيل الشباب والرياضة ورئاسة الجامعة والكلية والقسم، وسافرت للعراق في منتصف الفصل الثاني وكنت في المستوى الثالث . أعطوني الحق في دخول امتحانات الدور الثاني على العلامة الكاملة إذا عدت متأخراً، لكني عدت قبل الدور الأول بنصف شهر، وقررت — رغم ضيق الوقت — أن أدخل الدور الأول. وافق الجميع إلا الدكتور محمد بن شيبان، الذي تمسك بالنظام وقال إنني بلا درجات سعي. أعطاني خيارين: إما دخول الدور الثاني على خمسين، أو اختباره مع امتحان الدور الأول. اخترت الثاني، فقال لي: "سأعطيك اختباراً صعباً جداً." أخبرته أن لا مشكلة، فالحق حق، وإن قصرت فالدور الثاني ينتظرني. وفي يوم الامتحان سلمني ورقتين واحدة الامتحان وأخرى للاختبار، وزادني ساعة كاملة بعد الطلاب. وكانت النتيجة أن تفوقت في مادته ليس ذلك فحسب بل و حصلت على المرتبة الأولى في الدفعة... قال لي يومها: "راهنت عليك… ولم تخذلني." فقلت له: "ما زرعتموه بأيديكم نحصد ثماره." ورغم أنه الوحيد الذي رفض منحي الدرجة الكاملة، فقد كان الوحيد الذي تمسك باللوائح دون أن يظلمني… فبقي أثره في قلبي إلى اليوم.
رحم الله أستاذنا الكبير الدكتور محمد بن شيبان التميمي، سليل الأسرة الحضرمية العريقة… رجل جمع بين هيبة العلم ورقة الإنسان، وبين صرامة القاعة ودفء الأب الحاني. سيبقى من أولئك الذين لا يجود بهم الزمان إلا نادراً، ممن يظلون في الذاكرة ما بقي للعلم نور يسري في القلوب.


