وقف زبيدة: حينما تحوّل العزم إلى نهرٍ لا ينضب.

بقلم: منصور بلعيدي_

في تاريخ الحضارة الإسلامية، تبرز أسماء نساء خلدهنّ التاريخ لا بثرائهنّ فحسب، بل بعطائهنّ الذي تجاوز حدود الزمان والمكان. 
ومن بين هؤلاء، تتلألأ سيرة _زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور_ ، حفيدة مؤسس الدولة العباسية، كرمزٍ للريادة والعطاء والإصرار.

كانت زبيدة زوجة الخليفة هارون الرشيد، لكنها لم تكتفِ بدورها التقليدي في البلاط، بل اختارت أن تخلّد اسمها في سجل الوقف الإسلامي بمشروع إنساني عظيم: *عين زبيدة* ، التي امتدت من مكة المكرمة إلى بغداد، لتكون شريان حياة للحجاج القادمين من العراق.

بدأت الحكاية حين لاحظت زبيدة أن بعض الحجاج يعانون العطش الشديد في طريقهم إلى مكة، بل ويفقدون حياتهم أحيانًا بسبب ندرة المياه. 

لم يكن الأمر مجرد ملاحظة عابرة، بل تحوّل إلى هدفٍ لا يقبل التراجع. جمعت المهندسين والمقاولين، وطلبت منهم إيجاد حل لتوفير الماء على هذا الطريق الصحراوي القاسي. 
أجمعوا على استحالة الأمر، لكن زبيدة لم تتراجع. استمر البحث لأكثر من اثني عشر عامًا، والرد ذاته يتكرر: "لا حل". لكنها كانت ترد بإصرار: "لابد من حل".

ذلك الإصرار لم يكن عنادًا، بل إيمانًا بأن الأهداف الكبرى لا تُقاس بصعوبتها، بل بضرورتها. 

وبعد سنوات من المحاولات، توصل المهندسون إلى حل عبقري: حفر بئر في منطقة عرفات، ومدّ قنوات مائية تصل إلى طريق الحجاج من العراق.

 وهكذا، وُلدت "عين زبيدة"، لتروي ظمأ العابرين وتكون شاهدًا على عظمة العزيمة حين تتجسد في عملٍ خالد.

استمر هذا المشروع قرونًا، يخدم الحجيج ويُعد من أعظم أوقاف التاريخ الإسلامي. 
ومع مرور الزمن، تهالكت القنوات وتوقفت بعض أجزائه، لكن البئر الأصلية ما زالت تنبض بالماء حتى اليوم. 
ومنذ نحو عقدين، أعادت الحكومة السعودية إحياء المشروع، مرصدة له ميزانية ضخمة لإعادة تأهيل القنوات التي تربط مكة بالعراق، في خطوة تعكس امتداد روح الوقف عبر العصور.

قصة زبيدة ليست مجرد سيرة امرأة نبيلة، بل درس في التصميم والإرادة، ورسالة بأن الأهداف العظيمة لا تموت، بل تنتظر من يحييها من جديد.