رحلة مشتاق إلى الآفاق

كتب: أبو زين ناصر الوليدي*

باكستان - إقليم السند - مدينة شهر مورو (٢٠١٨م)

كان عددنا في هذه المجموعة الدعوية أربعة عشر داعية، خمسة من اليمن، وتسعة من بيشاور، جميعهم من البشتون، منهم أربعة يتكلمون العربية، وأهمهم المترجم مولانا محمد سفيان فهو خريج الجامعات الدينية بدرجة (مفتي) .
من هؤلاء التسعة الدعاة الشيخ (مشتاق) من مدينة بيشاور، نشأ في هذه الدعوة من صغره وخرج في أماكن شتى داعية إلى الله، ولكن أهم خروج له كان لمدة ثمانية عشر شهرا، منها أربعون يوما في باكستان، والباقية في أفريقيا، كما خرج في بنجلادش لمدة سبعة أشهر،
وقد سهرت معه ليلتين ليحدثني عن قصة خروجه إلى أفريقيا وما لقي فيها من أحوال.
وسألته أولا مازحا :
من أين لك المال الذي خرجت به في سبيل الله هذه المدة؟
 فقال : أقترضت من العمل ثلاثين ألف ربية واستدنت من زوجتي شيئا من ذهبها.
وبدأت رحلة خروجي في ١ يناير ١٩٩٤م، فقضيت في إسلام آباد أربعين يوما، ثم عبر القطار سافرت إلى كراتشي، وبالطائرة سافرت إلى دبي ومنها إلى نيروبي.
نزلت في كينيا في المركز العام للجماعة بصحبة ستة من الدعاة، وجرى تشكيلنا في كينيا، في العاصمة مدة عشرين يوما، فتنقلنا في الكثير من المساجد والأحياء والأسواق، وقد اعتنق نصراني واحد الإسلام على أيدينا، وسلمناه للمركز ليتابعوه.
وبالقطار تحركنا من نيروبي إلى دار السلام بتنزانيا، ونزلنا في المركز الرئيسي وبقينا هناك نتنقل بين أربعة مساجد حتى حان ميعاد سفرنا إلى(لوساكا) عاصمة زامبيا، واستقبلنا فيها عدد من المسلمين من أصل هندي، وشكلونا في العاصمة مدة عشرين يوما، وإنما كان دخولنا إلى كينيا وتنزانيا وزامبيا عبورا إلى موزنبيق محطتنا الرئيسية، وفي موزنبيق قضينا سنة وشهرين،تنقلنا خلالها في طول البلاد وعرضها، ومعظم حركتنا كانت على الأقدام، وقد زرنا خمس مدن رئيسية وملحقاتها، وبعد وصولنا بأيام أسلم على أيدينا ثلاثة نصارى، وبسبب هؤلاء الثلاثة أسلم اثنان وثلاثون آخرون من عائلاتهم وأصدقائهم وجيرانهم.
وقد كنا نتنقل على الأقدام حاملين أمتعتنا على ظهورنا، وبينما كنا نقطع الغابة أضللنا الطريق، وسرنا في الاتجاه الخطأ، ولم نتبين خطأنا إلا حين ظهرت لنا عجوز من بيت من القصب، فلما سألناها عن الطريق أخبرتنا أنه يجب علينا العودة ثم الاتجاه يمينا قبل أن يهجم علينا الليل، وكان الوقت بعد صلاة العصر، ثم سألتنا من أنتم وما الذي جاء بكم؟ فلما أخبرناها أننا مسلمون قالت : كان آبائي وأجدادي مسلمون قبل أن تتحول هذه المنطقة إلى النصرانية، ثم دعوناها إلى الإسلام فأسلمت وقالت لنا : زوجي وأبناىي نصارى، هل بالإمكان أن تتكلموا معهم؟
وتحت شجرة قرب عريشها جلسنا معهم فسرعان ما أسلم الأب وثلاثة من أبنائه وأرشدناهم إلى التواصل مع المركز الرئيسي في العاصمة، وكان المترجم معنا شاب موزنبيقي من أصل هندي، ولغة موزنبيق البرتغالية.
والغريب في موزنبيق أن وقت البرد في شهري يونيو ويوليو، فخرجنا ذات يوم نعرض أنفسنا للشمس من شدة البرد، فتحلقت حولنا فتيات نصرانيات وقلن لنا : نحن شابات نبحث عن أزواج فهل من الممكن أن تتزوجونا وتأخذونا معكم إلى بلادكم؟
فقلنا لهن : نحن متزوجون ولم نخرج إلا للدعوة إلى الله ولا نفكر في الزواج.
فقلن للمترجم : قل لهم يتزوجونا ما داموا في موزنبيق وقبل سفرهم يطلقونا.
فضحك المترجم ولم يرد أن يترجمها لنا حتى ألححنا عليه مالذي يضحكه؟
وما زلنا نتنقل على الأقدام من بلدة إلى بلدة حتى وصلنا إلى سد عظيم يسمونه (سد سونغو) ويزعمون أنه ثالث أكبر سد في العالم.
وفي إحدى الغابات وقفنا نصلي الظهر فأذن المؤذن بصوت مرتفع ثم صلينا فما سلمنا إلا والناس حولنا رجالا ونساء وأطفالا وجميعهم من النصارى فأخذوا يسألوننا عن ديننا وخروجنا حتى غادرنا المكان.
ثم كان طريقنا إلى منطقة (شنجارة)، وقبل وصولنا رأتنا امرأة فأخذت تتبعنا وتنادينا حتى أوقفتنا فقالت لنا : هل أنتم مسلمون؟ قلنا نعم.
قالت : وهل لا يزال في الأرض مسلمون؟
قلنا لها : نعم، كثير جدا.
قالت : ولكن الراهب أخبرني حين أعتنقت النصرانية أن المسلمين انقرضوا ولم يبق لهم أثر، ثم قالت : اذهبوا معي إلى بيتي وأنا سأذهب إلى الراهب وأخبره أن هناك مسلمين في قريتنا.
فأخذتنا إلى بيتها وذهبت هي إلى الراهب وقالت له: أن هناك عددا من المسلمين في بيتي. فقال لها الراهب : أنهم ليسو مسلمين وإنما يقومون بأعمال المسلمين، فقالت بل هم مسلمون حقا جاءوا من خارج البلاد، فقال لها : ولو كانوا مسلمين فلن يقدموا لك شيئا، لا طعاما ولا دواء ولا مساعدات، فقالت : سوف أعود إلى الإسلام، واقطعوا عني مساعداتكم.
ثم عادت فأخبرتنا، ورددت الشهادتين، ثم قبل أن نغادر أهدتنا دحاجتين إكراما لنا.
فلما وصلنا مدينة شنجارة، وفيها ما يزيد على عشرة ألف نسمة كما أخبرنا المترجم، وجدنا فيها بقايا مسجد مهدم فقد ارتدوا جميعا عن الإسلام إلى النصرانية، ولم نجد فيها غير مسلم واحد شيخ كبير مريض مقعد وقد قمنا بزيارته إلى بيته، واشترينا له بعض الهدايا، وفي طريقنا داخل المدينة كنا نرى الكنائس المبنية بالقصب، ونتحسر على هذه المدينة التي كان أهلها جميعا مسلمين، وقد حاولنا دعوتهم إلى الإسلام لكن دون جدوى.
ثم غادرنا المدينة مشيا على الأقدام كما هي رحلتنا، فمشينا أسبوعا كاملا دون أن نرى بشرا، وبعد أسبوع ظهرت لنا ثلاثة بيوت، جميع من فيها نصارى إلا رجلا واحدا، فنزلنا عنده ولم نجد معه من الإسلام غير الشهادتين، فعلمناه الصلاة، وكان يصلي ويجلس معنا، فاوصيناه بالسفر إلى العاصمة حتى يرتبط بإخوانه هناك.
واصلنا مسيرنا حتى وصلنا إلى قرية فيها ما يزيد على خمسين بيتا جميعهم من النصارى، فأسلم منهم رجل وبقي معنا فلما غادرنا المدينة غادرها معنا فمشى معنا ثلاثة أيام ثم عاد إلى قريته فأسلم على يديه زوجته وولداه فلحقونا جميعا، وكان فرحا بالإسلام لدرجة أنه يأمر زوجته وولديه أن يكرروا لا إله إلا الله محمد رسول الله بصوت مرتفع ملحن، وقد حاول أبو زوجته أن يثنيه عن الإسلام هو وزوجته لكنه فشل.
وبعد مسيرة خمسة عشر يوما على الأقدام وصلنا مدينة (شيشاي) فاعترضنا رجل نصراني وسألنا :
هل أنتم مسلمون؟
قلنا : نعم
قال : ابني مسلم وزوجته مسلمة إلا أن زوجته ماتت منذ أشهر، ووجدنا في هذه المدينة الكثير من المسلمين لكنهم معرضون عن الإسلام فلا يصلون ولا يصومون ويشربون الخمر ويرتادون الكنائس، فاجتهدنا عليهم وذهبنا ننتزعهم من داخل الكنائس ووجدناهم لا يعرفون اتجاه القبلة، فخططنا لهم مسجدا من أعواد الشجر وعلمناهم الصلاة وأركان الإسلام وقصار السور وأكدنا على المترجم أن يهتموا بهم ويرسلوا لهم أئمة ومعلمين.
طبعا استجاب لنا القليل منهم والآخرون يحتاجون جهدا كبيرا وعملا مستمرا.
ذكرت لنا جزيرة في المحيط الهندي تتبع موزمبيق وقد أخبرنا أن فيها مسلمين، فركبنا البحر مع سفينة مدة ثماني ساعات حتى أرست بنا السفينة هناك، وبدأنا رحلة البحث عن المسلمين، ومنهم من سمع بنا فتداعوا نحونا واجتمع حولنا المئات لكنهم للأسف لا يعرفون من الإسلام شيئا ولم يعد معهم من الإسلام غير أسمائهم الإسلامية، فأسسنا مسجدا ليكون نقطة تحركنا ومركز دعوتنا، فعلمناهم الشهادتين وسورة الفاتحة والإخلاص والصلاة وبعض الأحكام الضرورية، وقبل أن نسافر عينا أكثرهم تدينا ومعرفة بالإسلام إماما عليهم، وآخر مؤذنا وغادرناهم على نية ربطهم بمركز العاصمة، وكان عدد المسلمين هناك  يزيد على خمسمائة، ثم عدنا مع سفينة إلى البر ومنه تحركنا إلى منطقة(زوالة) فوجدناها منطقة يسرف أهلها في شرب الخمر، ووجدنا المسلمين يقضون ليلهم في الخمارات وينامون إلى الظهر، فكنا نسجل أسماءهم ونذهب لهم ليلا إلى الخمارات ، والحقيقة أن عدد المسلمين في هذه المنطقة لا يزيد على المائتين، وفي هذه المنطقة رأينا هلال رمضان وأصبحنا صائمين ولم يكن معنا فطور جيد بل لم تكن معنا في هذه الغابات غير طحين الذرة، فكنا نطبخ منها أقراصا نفطر عليها ونترك جزءا آخر نتسحر منه، حتى زارنا عدد من الإخوة من العاصمة فعززوا تغذيتنا قليلا، ثم انضموا إلينا فوزعنا المسلمين حلقات مع كل واحد عشرة يعلمهم التوحيد والصلاة وقصار السور وما لابد منه، ولم نخرج من هذه المنطقة حتى خرج معنا منهم جماعة.
وفي هذه الغابات كنا أحيانا نصلي متيممين لانعدام الماء، وربما لم نذق الطعام يوما كاملا بل أننا أحيانا لا نجد ماء الشرب، فمشينا حتى تجاوزنا الغابات حتى دخلنا إحدى المدن فرأينا حركة للناس غير طبيعية فقيل لنا أن معهم انتخابات ووجدنا قوات الإتحاد الأفريقي وفيهم جنود مصريون فاستدعيناهم إلى مكان إقامتنا وأكرمناهم وكان بعضهم يتقن تلاوة القرآن فكان يصلي بنا، وقبل مغادرتنا طلبنا من المصريين إذا رجعوا إلى بلادهم أن يذهبوا إلى المركز العام للتبليغ هناك ووعدونا خيرا.
وهكذا تنقلنا من مكان إلى مكان حتى دخلنا جمهورية ملاوي في غاباتها وهناك بدأنا ندعو إلى الله فلم نغادر ملاوي إلا بإسلام خمسة نصارى، ووجدنا في ملاوي مسلمين مرتين بيوتهم من قصب فدعوناهم فعاد إلى الإسلام منهم جماعة، وبعد عشرين يوما قضيناها في ملاوي اتجهنا إلى زامبيا وفيها حصلنا على تأشيرة إلى السعودية للحج، ومن زامبيا ركبنا القطار يومين حتى تنزانيا ثم إلى كينيا وفيها اشترينا تذاكر الحج فطارت بنا الطائرة إلى الرياض، ومن الرياض ركبنا سيارة إلى مكة، فاعتمرنا ثم اتجهنا إلى المدينة النبوية وفيها وجدنا قادة الجماعة: الشيخ عبد الوهاب والشيخ طارق جميل والشيخ عمر بالمبوري والشيخ محمد عمر والشيخ أحمد باهاولبوري وغيرهم، وحجينا واعتمرنا ثم عدنا إلى كراتشي ومنه برا إلى المركز العام في رايوند وهناك جرى تشكيلنا أربعين يوما قبل أن نصل إلى بيوتنا.
.