تعز .. عاصمة السياسة والهوية والحب ..
دراسة نقدية تتناول رائعة الشاعر الفضول (بكر غبش)
القصيدة :
بكّر غبش في الطلّ والرشاشي
بكّر بكور قبل الطيور ماشي
حالي وسط ململم الحواشي
أخضر من الله لا مطر ولا شي
على الروابي تحت ظل الأشجار
فوق المروج الخضر بين الأزهار
عند المراعي في ضفاف الأنهار
ربا الهوى وشب في دمه نار
بكّر غبش ساني القوام أهيف
لا طارح الخُنّة ولا مشرشف
يسبي القلوب بنظرته ويخطف
ساجي الرنا قلبي عليه رفرف
بكّر وعاد الطير وسط الاعشاش
والفجر طالع بالشعاع رشاش
يمشي بخفّة للنهود رعّاش
من خطوته فوق التراب أنقاش
بكّر وطلّ الصبح ملء خدّه
وفرحة الأحلام فوق نهده.
فالحقل يفتش له طري ورده
وانا وروحي والفؤاد بعده
أخضر تمخطر والنهار طالع
يقسّم النشوة على المزارع
لفت وسلّم واستمر جازع
وداعتك وا حافظ الودايع .
حين نقف على ظلال وإيحاءات .
هذا النص من الشعر الغنائي - والذي يعتبر الأبرز عنداليمنيين لتدوين حياتهم وأنشطتها -
ونتأمل المغازي والرمزيات والإشارات التي يحملها
فإننا أمام لوحة فنية ذات بعد وطني ومغاز سياسية قلما نجد نظيرها في كل ألوان الشعر يمنياوعربيا .
فحين تتناغم الطبيعة فتعزف جداولها، وتغني ورودها وترقص أغصانها وتبتسم زهورها ويشدو طيرها ويفرح إنسانها ويهمو طلها ويزقزق عصفورها ويفوح عبيرها
وتضحك تربتها وتلين صخورها وتحنو سماؤها وتتلألأ نجومها ويختفي ليلها ويتنفس صبحها
كل هذا احتفاء وابتهاجا بذلك الكائن الأملود الخفيف الظل الذي يبدو قانون الجاذبية الارضية ممتنعا في حالته ! حيث لاوزن ولاثقل ولاآثار خطو سوى نقش على الأرض كنقش الخاتم العقيقي على المعصم المطوي كطي العقد بالياقوت .
فإننا أمام مهرجان من نوع راق وفريد .
ذلك المهرجان الصباحي بحضور مكونات الطبيعة مجتمعة مبتهجة محتفية متفاعلة في ذلك البكور وساعة ما قبل الشروق . تلك المكونات من الطبيعة حضرت له وفيه، ومن اجله .
فاختار الطل وجنتيه واختارالنسيم العليل مداعبة نهوده وارتأت الأزهار مرافقته والاحاطة به .
وقدمت الأغصان نفسها كجوارِِ حسناوات للرقص بين يديه وانسحب الظلام على وجل لإفساح الطريق . والشمس راقبت المشهد عن بعد ...
أما الطيور بأسرابها وزقزقتها وألوانها فكانت الأشد فرحا والأعمق سرورا ناهيك عن التربة الرطبة التي كانت منتشية لمن ينقش فوقها .
هذا النموذج من الوصف والتعبير يعتبرلوحة فريدة من نوعها .
بل وأرقى ما أنتجته القرائح وفاحت به الروائح من متلازمة الروح والطبيعة وثنائية الحب والوجدان .
هذه الظاهرة فريدة حدثت في اليمن لا أقول على لسان وليس صناعة فحسب بل بريشة المرحوم عبدالله عبدالوهاب نعمان والبسها أيوب حلتها المرصعة كعادته ليس بحنجرته فحسب بل بقليبه المشقوق ظمأََ ودمه المشتعل بلوعات الحنين
تكامل بديع بين تلك الطبيعة الساحرة وذلك الحبيب الأشد سحرا حيث استقبلته الحقول بأن فتشت له الطري من ورودها ونثرت الروائح العطرة على جانبي الطريق .
في حين كان هذا الحبيب يوزع النشوة ويرش الأريحية على تلك المزارع والحقول .
أما المعجزة الفنية ذات البعدالوطني ففي وصفه لذلك الحبيب بأنه (لا
طارح الخنة ولامشرشف)
فما أراه بذلك إلا متناولا قضية الوحدة اليمنية التي كانت هاجس ووجدان اليمنيين جميعا .
فالخنة ب - عدن - والشرشف - ب بصنعاء -
وهنا يندمج الحبان وتنصهر اللوعتان ويحلق شاعرنا في سماء الهوية والوطن ضارباجذوره في اعماق تربته وبيئته .
وليس هذا بغريب عليه فهو صاحب كلمات النشيد الوطني لليمنيين واليمن (رددي أيتها نشيدي)
والذي يعتبر أعظم نشيد وطني في التاريخ والعالم قاطبة .
فليس هناك من يشبهه أويقاربه في المعاني والمباني والتوهج والحب وإعظام الوطن وإيقاد المشاعر وإيقاظا الأحاسيس
فهو شاعر الانعتاق والحرية والارض والإنسان .
وهوصاحب إلياذاتنا وبطل معلقاتنا
وهو ملك أشعارنا وطليعة ذخرنا وفخرنا ..
بكّر وطل الصبح ملء خده
هذا التصوير منقطع النظير لم يسبق إليه أحد من العرب .
هنا صورة مختلفة تماما من حيث الوقت أيضا فأصحاب هذا الفن حرصوا على وصف النساء بالنوم في هذا التوقيت الصباحي الذي هو أجمل ما في اليوم والليلة .
قال امرؤ القيس :
وتضحي فتيت المسك فوق فراشها ..
نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضلِ
والانتطاق : شد الوسط بالثياب فلم تفعل لأنها مخدومة وبقيت متفضلة أي بثياب النوم .
وفي حديث أم زرع : وأرقُدُ فأتَصَبٌح قال البغوي : أي تنام الصبحة لأنها مكفية .
والصٌبحة نوم أول النهار قال تعالى :
(وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) قال ابن كثير : وهذان أيضا متقابلان فالظمأ حر الباطن وهو العطش والضٌَحِىٌ حر الظاهر
وتطلق العرب وصف (الصفراء) على من ألِفت نوم الضحى
وهذا التدلل غير موجود في اليمن ! ! وشاعرنا هنا ينفي ذلك كغيره من شعراء اليمن الذين يعتبرون البكور بركة وخفة وتشاطا ! كما هي الفطرة
وقد كرر الفعل بكر وهو فعل مذكر مقصود به المؤنث تعارف على ذلك الشعراء
والتكرار للتاكيد على مسالة البكور ودوره في حركة اليمنيين قاطبة .
وماتزال أي أمة في خير مادام البكور ديدنها وعُرفها وعادتها
وقد ختمها بأرق أنواع العبادة ألا وهو الدعاء والتوكل في آن واحد بقوله :
(وداعتك واااااحااااافظ الودائع ) .