الوجه الآخر للخيانة
بقلم / ابتسام الحيدري
عندما نسمع كلمة "خيانة الوطن"، يتبادر إلى أذهاننا مباشرة تلك الصورة النمطية التي تجسد الخائن كمن يبيع وطنه للعدو أو يتآمر مع قوى خارجية بهدف تقويض أمنه واستقراره، ومع أن هذا النموذج يمثل الخيانة بأبشع صورها، إلا أن الخيانة للوطن لا تقتصر على هذا الفعل الصريح، فهناك أشكال خفية وغير مرئية للخيانة يرتكبها أفراد ربما يعيشون بيننا ويعتبرون أنفسهم جزءًا من الوطن، ولكنهم يسهمون دون وعي أو بتعمد في إضعافه وتمزيق نسيجه.
كم من الأخطاء تُرتكب في الوطن تحت أنظارنا ونسكت عنها؟ السكوت عن الخطأ هو خيانة صامتة لا تقل خطورة عن الأفعال المباشرة، عندما نرى الفساد ولا نحرك ساكنًا، أو نشهد الظلم ولا نرفع صوتًا، نكون قد شاركنا في خيانة الوطن، فالمواطن الحقيقي هو من يدافع عن الحق ويقاوم الفساد، لا من يتستر على الخطأ أو يغض الطرف عنه.
الرشوة ليست مجرد انحراف أخلاقي فردي، بل هي اعتداء على حق المجتمع بأسره، الموظف الذي يتلقى رشوة يتخلى عن مسؤوليته تجاه الوطن ويبيع ضميره لمن يدفع أكثر، متجاهلاً الآثار السلبية التي تنتج عن ذلك، فالارتشاء يدمر الثقة بين المواطن والدولة ويعرقل عجلة التنمية.
الخيانة ليست محصورة في المؤامرات السياسية أو بيع المعلومات السرية، بل تشمل أيضًا تقصير الفرد في أداء عمله بصدق وإخلاص، الطبيب الذي يهمل مرضاه، والمعلم الذي لا يربي طلابه على القيم، والموظف الذي يتقاعس عن أداء واجباته، كل هؤلاء يخونون الوطن بأفعالهم. فالوطن لا ينهض إلا بجهود أبنائه المخلصين، وأي إخلال بالواجب هو خيانة لقيم العمل والإنتاج.
في أوقات الأزمات، يتطلب الأمر الوحدة والتكاتف من الجميع، ولكن هناك من يستغل هذه الفترات لنشر الفتنة والفرقة بين أفراد المجتمع، هؤلاء الذين يحرضون على الكراهية بين الفئات المختلفة، سواء كانوا سياسيين أو أفرادًا عاديين، يخونون الوطن ويعصفون بتماسكه الداخلي، فالفتنة الداخلية أحيانًا تكون أخطر من العدو الخارجي، لأنها تهدد وحدة الوطن من داخله.
من أخطر صور الخيانة للوطن هي تلك التي تتمثل في عدم الحفاظ على الممتلكات العامة، عندما يسيء المواطن استخدام المرافق العامة، سواء كانت حدائق، طرق، مؤسسات أو حتى البنية التحتية، فهو يسهم في إهدار موارد الوطن التي هي ملك للجميع.، هذه الأملاك ليست مجرد أشياء مادية، بل هي رمز للجهد والتعب الذي بذله الأجيال السابقة لبناء وطن مزدهر، تدمير الممتلكات العامة أو إهمالها هو تدمير لجزء من الوطن ذاته، ويعتبر خيانة للأمانة الوطنية التي تتطلب منا رعاية وحماية هذه الموارد.
اللامبالاة تجاه ما يحدث في الوطن، سواء كان فسادًا أو ظلمًا أو تعديًا على الحقوق، هي نوع آخر من الخيانة، عدم الاكتراث والتخلي عن المسؤولية الوطنية يجعل من الفرد شريكًا في كل ما يحدث، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فاللامبالاة هي خيانة بدون أفعال.
إهمال الزوج لزوجته وأولاده وإهمال الزوجة لزوجها وأولادها شكلاً من أشكال الخيانة غير المباشرة للوطن، فالوطن ليس فقط أرضًا ومؤسسات، بل هو أيضًا النواة الأساسية التي تشكّلها الأسرة، الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، وإذا كانت العلاقات داخل الأسرة متينة ومستقرة، فإن ذلك ينعكس إيجابيًا على المجتمع ككل.
عندما يهمل الزوج زوجته وأولاده، سواء كان ذلك من خلال عدم توفير الرعاية العاطفية أو المادية أو التربوية، فهو يسهم في خلق أفراد غير مستقرين نفسيًا أو اجتماعيًا، مما يؤثر على تنشئة الأجيال القادمة، هذه الأجيال هي مستقبل الوطن، فإذا لم تكن متماسكة وتربّت على قيم صحيحة، فإن المجتمع بأسره قد يتأثر سلبيًا، إهمال الأسرة يمكن اعتباره خيانة للواجبات الأخلاقية والوطنية، لأنه يسهم في تدهور القيم الأسرية التي تُعتبر أساس قوة وتماسك المجتمع.
الخيانة ليست مجرد بيع أسرار أو تسليم أرض للعدو، بل هي كل فعل أو تقاعس يؤدي إلى إضعاف الوطن وتآكل قوته، المواطن الحق هو الذي يراقب نفسه قبل أن يراقب الآخرين، ويؤدي واجباته بإخلاص دون انتظار مقابل، ويتصدى للفساد والخطأ أينما وجده، الحفاظ على الوطن هو مسؤولية الجميع، والخيانة تبدأ عندما يتخلى الفرد عن دوره في بنائه ودعمه.
#نقطة_انتهى