لـيـلـة الـزيـن

 
 *لـيـلـة الـزيـن* 
١٦ ديسمبر ٢٠١٠م

*قصة قصيرة كتبها: أبو زين ناصر الوليدي*
 
كان أبو محمد الليلة أقل قلقًا من ذي قبل، لعل ذلك بسبب حديثه صباح اليوم مع صديقه الأستاذ أبي الحارث، لذا صعد لينام على سطح غرفته الوحيدة رغم برودة ليل ديسمبر، كانت الكهرباء منطفئة كعادتها في الفترة الأخيرة، فاستلقى تحت نجوم السماء ومعه مذياع صغير يقلب موجاته بقليل من الاهتمام، وأصوات بعض الطيور تصل إلى مسامعه من أشجار الوادي القريب من بيته. عندما كان طفلًا كانت تخيفه هذه الأصوات الغريبة التي تصدر ليلًا من هذا الوادي. كان يقلب الموجات بإبهامه، ويسمع أصواتًا وبرامج مختلفة، لم يكن يحفل بها، بل سرعان ما ينتقل إلى محطة أخرى، فمرة يصل إلى أذنه صوت احتفالات الشيعة بيوم عاشوراء، ومرة نشرات وتقارير، وبين كل المحطات يسمع صوت موسيقى خافتة، ثم يضع المذياع بجانب فراشه غير منصت له. 
في كل ذلك وهو يحاول أن يدفع عن نفسه القلق والهواجس التي تتوهج من داخله، ثم تتغشاه سكينة وهو يستعيد كلمات صديقه أبي الحارث، فقد جلسا صباح اليوم في ظل شجرة المدرسة التي يعمل فيها معلمًا للغة العربية، كانا يجلسان على الحشيش وينظران إلى الماء الذي يتدفق على الشجرة من خرطوم أخضر، أخبر صديقه بهواجسه التي بعثها في نفسه كلام الطبيبة، صحيح أن زوجته توقفت عن الإنجاب ما يقارب تسع سنوات بعد أن أنجبت أبناءه الثلاثة متتابعين، فقبل تسع سنوات ومع ميلاد آخر أولاده أسامة أرشدتهم طبيبة في صنعاء إلى التوقف عن الحمل، نتيجة لضعف الزوجة ووضعها الصحي، وكاشفتهم أن هناك ارتخاء في الصمام قد يسبب لها الكثير من المضاعفات، ولكن هذا الحمل الأخير جاء كقدر مفاجئ. 
أخذ المذياع وأخذ يقلب موجاته، وذهنه شارد في وضع زوجته، فهي على وشك الولادة، ومنذ أيام راجعا الطبيبة فكانت تزم شفتيها وتهز رأسها وتشير إلى شكوكها في وضع الجنين، ثم تبتسم وتطمئنهم وتقول: أرجو أن يكون كل شيء على ما يرام.
قال له صديقه أبو الحارث صباح اليوم: يوجد في العالم أكثر من ستة مليار  إنسان كلهم ولدتهم أمهات، فلا داعي للقلق، وقعت تلك الكلمات على نفسه كالنسمة الباردة في نهار آيار الغائظ، حاول أن يغمض عينيه مستأنسًا بتلك الكلمات، وكانت الإذاعة ترسل أصواتًا لا يعيها، فجأة تذكر أن في العالم الكثير من الأمهات اللاتي متن بسبب الولادة، لماذا ورد عليه هذا الهاجس في تلك اللحظة؟ 
أخذ المذياع وضبط موجته على القرآن الكريم ووضعه بجانبه ثم استسلم للنوم.
في صباح اليوم الثاني طلبت منه زوجته أن يمشي معها على الأقدام فذلك يساعد على نزول المولود كما أخبرتها بعض النساء، اتجها جنوبًا فسارا في الوادي، ومرا بكثير من أشجار السدر وبعض الأشواك التي تتناثر في الوادي، حتى وصلا إلى أرضهم التي زُرعت بالطماطم، وهناك جلسا قليلًا وأكلا حبات ناضجة، وأخذا يتحدثان في مواضيع شتى ثم قررا العودة، وقرب البيت قالت له زوجته: هيا نواصل السير إلى أعلى الوادي، فقطعا ما يزيد على الكيلو متر حتى وصلا إلى أسفل الجبل وجلسا في ظل سدرة كبيرة، ولم يطل جلوسهما هناك فمن طريق آخر عادا إلى البيت وهما مرهقان، والجنين متشبث ببطن أمه وكأنه يرفض الخروج إلى العالم في ظل الظروف التي تعيشها البلاد.
ضحك أبو محمد وقال: 
 يبدو أن (الزين) أجّل خروجه احتجاجًا على تردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية.
ابتسمت زوجته بألم وقالت: أظن أن هذا آخر يوم له في عالم الأجنّة وسيكون غدًا بإذن الله ضيفًا على الدنيا.
لم يكن يملك سيارة لذا ذهب إلى ابن عمه وطلب منه أن يجهز سيارته في حال احتاج لها لإسعاف زوجته إلى المستشفى، كانت سيارة (كرسيدا) قديمة، ولهذا أكد على ابن عمه أن يتفقدها جيدًا.
 وفي تمام الساعة الحادية عشر ليلًا لم تعد باستطاعة أم محمد أن تحتمل آلام المخاض ، وكان يسمع أناتها في خوف وقلق وهو يتذكر تحذيرات الطبيبة قبل تسع سنوات، ثم يبرز له وجه الطبيبة التي زاراها قبل أيام وهي تزم شفتها وترفع حاجبيها محدثة أخاديد في جبهتها، هرع إلى ابن عمه وأخذ منه المفتاح، وانطلقت السيارة يقودها أخوه عبد الله، يقعد هو في الكرسي الأمامي وخلفه أمه وزوجته، ولم تمض سوى لحظات قصيرة من انطلاقة السيارة حتى توقفت فنزل أخوه يتفقدها ويحاول تشغيلها دون فائدة، تجمع بعض شباب القرية ودفعوها عدة مرات ولم يظهر أي رجاء في صلاحها، وقف واضعًا يديه على خصره وهو يلهث من شدة دفع السيارة، ورغم برودة الجو إلا أنه كان يتصبب عرقًا، وفي لحظة الحيرة هذه جاء أحد شبان القرية بسيارته ووضعها بين أيديهم لينتقلوا إليها مواصلين رحلتهم نحو المستشفى الحكومي الوحيد في مدينة (مودية).
كانت السيارة تسير مسرعة وكأنها قارب سباق يشق أمواج الليل، والأشجار تندفع إلى الخلف كموجات البحر، وسراج السيارة يخترق ظلمة الليل فيرسم ضوؤه خطوطًا ملونة على صفحة الليل تشبه خطوط الأطفال في دفتر الرسم، كان يهمس في أذن السائق ليزيد من السرعة، ويلتفت نحو زوجته وهي تحاول كتم صيحاتها، ثم ينظر أمامه ليتابع الطريق، فيرى القرى وهي تأوي إلى النوم، والمصابيح تتراقص من بعض النوافذ، حتى تجاوز قرى (أورمة)، وشعر بشيء من الارتياح حين وصل إلى الخط العام، لم تكن تسير في هذا الخط إلا القليل من السيارات لعل ذلك بسبب مشاكل البلاد الأخيرة والجماعات المقاتلة التي تنتشر شمالًا وجنوبًا، مع أزمة المحروقات وصعوبة الحصول على البنزين. 
وما أن وصلت السيارة إلى مشارف مدينة مودية حتى انطفأت الكهرباء، وخيم الظلام والسكون على المدينة، وفي مدخل المدينة انحرفت السيارة يسارًا إلى الطريق الترابي حتى وصلت إلى المستشفى، فتوقفت في باحتها، كانت جميع أبواب المستشفى مشرعة، والمستشفى فارغ إلا من الظلام وبعض القطط التي تتقافز في نوافذه، وكلب مستلق قرب الباب رفع رأسه نحو السيارة بكسل ثم عاد لنومه. دخل أبو محمد وأخوه يتجولان في أروقة المستشفى وأقسامه فإذا هي مظلمة خاوية، إنه يعرف هذا المستشفى تمامًا فقد كانت له فيه حكايات مع الحقن والصراخ والأطباء أيام طفولته، وها هو الليلة يتجول فيه كما يتجول المستكشف في مدينة أثرية هجرت منذ آلاف السنين، صرخ بأعلى صوته مناديًا هنا وهناك فلا يجيبه إلا الصدى، عاد إلى السيارة خائبًا وهو يلتفت إلى زوجته في الظلام معتذرًا لها مما صنع الزمان بهذا المستشفى الذي كان يومًا يمنح الناس أسباب الحياة، دار بهم السائق إلى الجهة الخلفية حيث يقع سكن الأطباء فنزل مسرعًا يطرق بابًا خشبيًا أجوف، وعلى هذه الضربات خرج ممرض يحمل مصباحًا يدويًا. 
ــ نعم، ما لكم؟
ــ ولادة.
ــ انتظروا في قسم الولادة حتى أُوقظ القابلة. 
ثم ناوله شمعة فدخلوا يتلمسون الطريق على ضوئها. 
لم يمر وقت طويل حتى جاءت القابلة تلعن النور والظلام والأطباء والإدارة والمرضى والمرافقين، ثم صرخت بصوت وكأنه يهز ضوء الشمعة:
ــ ما الذي جاء بكم إلى هنا وأنتم تعرفون الحال؟ ألم تيأسوا من هذا المستشفى إلى اليوم؟ هيا إذن شغلوا (الماطور).
تجمع ثلاثة من الممرضين يحاولون تشغيل (الماطور)، كما يتجمع الجراحون على مريض في رمقه الأخير.
قال أحدهم: للأسف لا يوجد في (الماطور ) (ديزل) ثم خطا نحو الظلام وعاد وهو يحمل في يده خزانًا بلاستيكيًا سعة عشرين لتر قائلًا: اذهبوا المحطة واشتروا (ديزل) وعودوا بسرعة. 
صرخ ممرض آخر: لماذا لا يوجد (ديزل) وبالأمس تسلمت الإدارة مليونين وأربعمائة ألف ريال؟ 
فأجابه صاحبه ضاحكًا:
يا أخي نسوا أن يشتروا ديزل. 
الوقت يمر بطيئًا، والصرخات تقطع صمت الليل، وأبو محمد يجادل الممرضين في شبه ظلام، والقابلة مستمرة في لعناتها مما أفقده القدرة على ترتيب أفكاره، هل يأخذ الخزان ويذهب إلى المحطة باحثًا عن (الديزل) والمحطة ليست قريبة، وصرخات زوجته تربكه، ولعنات القابلة تثير غضبه، قطع عليه أحد الممرضين شروده وقال: حتى لو ذهبت إلى المحطة فلن تجد (الديزل)؛ لأن (البترول) معدوم والكهرباء منطفئة، فوفر على نفسك الوقت وانطلق إلى الخديرة. 
كان ينظر إلى الممرض على أضواء المصباح اليدوي وسراج جوال الممرض الآخر، فكانت كلماته حاسمة في اتخاذ قرار سريع يوضع زوجته وأمه في السيارة منطلقين، وخلفهم مستشفى أثري يشبه بقايا مدن الحميريين وكتاباتهم المسندية، وقبل أن تغادر السيارة المستشفى التفت إلى البوابة وأحس أنها تبكي تحت الظلام معتذرة، وفي مدخلها سواد كلب نائم بأمان.
كانت السيارة تهتز مسرعة وهو يسترجع مع ــ أنات زوجته ــ بعض الذكريات في هذا المستشفى، وغصة في صدره تتوهج بالألم، عندما كان طفلًا كان هذا المستشفى يعج بالحياة ويزدحم بالأطباء والممرضين والإداريين والمنظفين والمرضى والمرافقين، ما أن يلج بابه حتى تنبعث رائحة (الديتول) و(البنسلين) ومواقد صغيرة للنيران تغلي لتعقم الحقن المستخدمة، لا يزال يتذكر اللحظة التي حُمِل فيها مريضًا ومعه أمه وأبوه، وقرر الطبيب أن يضرب له حقنة فتشبث بالجدار وصرخ خائفًا، ومازال يقاوم حتى غير له الطبيب الحقن إلى عقاقير.
وصلت السيارة إلى الخط العام وانطلقت مسرعة، والتفت إلى السائق كي يدوس بقدمه على البنزين، ثم عاد إلى ذكرياته وسط صراخ زوجته، لقد كان يأتي عصرًا لزيارة أخيه المرقد في المستشفى، ولصغر سنه لا يسمح له الحارس بالدخول، فيدور حول المستشفى حتى يجد النافذة التي يرقد خلفها أخوه فيقف يشير إليه من خلف زجاجها.
في طفولته لم يكن يعلم أن هناك دولة اسمها الكويت بل كان يظن أن كلمة (الكويت) تعني المستشفى؛ لأن الناس في قريته كلما أرادوا الذهاب إلى المستشفى قالوا: سنذهب إلى الكويت، وعدنا من الكويت، فهذا المستشفى بنته الكويت هو وغيره من المستشفيات في طول البلاد وعرضها.
تغشته ابتسامة وسط هذه الآلام والبرد والطريق حين تذكر أن بعض الصغار من أبناء قريته هرع إلى المستشفى مع أول سيارة حين سمع الناس يقولون أن الجيش العراقي احتل الكويت، فظن بحكم طفولته أن الجيش العراقي قد دمر المستشفى، وأن ساحته مليئة بالجنود والأسلحة.
كان الطريق من مودية إلى الخديرة خاليًا تمامًا، والخوف يخيم على المنطقة، هناك جماعات مسلحة تنتشر في كل مكان، وفي شمال الشمال هناك حروب مستمرة، والقتلى من العسكريين يُحملون إلى الكثير من هذه القرى.
وقفت السيارة عند مستشفى الحسين في الخديرة، فبقي السائق في السيارة فدخل وهو يسند زوجته، وفي الصالة استقبلتهم طبيبة هندية تعلوها ابتسامة مصطنعة تلقي معها بعض الكلمات الأعجمية، وأخذتْ أم محمد إلى غرفة الولادة، وبقي هو في الصالة يفرك يديه ويدعو الله، فلما كانت الساعة الثانية وخمسًا وأربعين دقيقة أطلق (زين العابدين) صرخة الميلاد بعد لحظات اختناق يسيرة، وصلت الصرخة إلى سمع الأب فبددت كل الهموم التي تجثو على صدره وكأنها بعير مريض. غادروا المستوصف، ثم جلس على كرسي السيارة الأمامي يتنفس بعمق وكأنه عاد منتصرًا من معركة كبيرة. 
كانت السيارة تنطلق هذه المرة بسعادة، ودفء الفرح يسري إلى عظامه طاردًا برد كانون القارس، ولكن حصل ما لم يكن في الحسبان، فعند قرية السويداء نفد وقود السيارة فتوقفت، فنزل ودخل القرية وأخذ يطرق باب ونوافذ أقرب بيت فيها وينادي ولكن لا مجيب، ثم ينتقل إلى الباب الآخر، وبعد جهد أطل صاحب البيت وأخذ يتكلم بكلام غير مفهوم. 
ــ عفوًا لو سمحت توقفت سيارتنا ومعنا مولود فقد جئنا من الخديرة. 
ــ المعذرة سامحوني فقد كانت البارحة في القرية مشكلة، وظننت ذلك من تداعياتها، نعم تفضلوا معي (بترول). 
أخذ (البترول)، وتحت جنح الليل عادوا فرحين حتى وصلوا إلى مدينة مودية قبل الفجر، فلم يسمعوا فيها صوتًا إلا أصوات نباح كلاب متقطعة تأتي من بعيد.
 ومع بزوغ الفجر استقبل دارهم الصغير مولودهم الصغير، وتسامع بهم الأهل فتجمعوا حول المهد فرحين مسرورين تشع من وجوههم الآمال........ 
إلا أن أبا محمد في تلك الليلة قرر الرحيل إلى عدن.

كتبها أبو زين ناصر الوليدي