الـبـدايـة
بقلم /*أبو زين ناصر الوليدي
في ليلة من ليالي شباط الهادئة وبعد شهر مع المرض، وبعد مرور ثمانية أشهر ونصف على حملها، تصرخ الأم ويعلو صراخها فيستيقظ بعض من في البيت، ظانين أن المرض قد اشتدت وطأته على الأم الحامل، ولم يدركوا أنها آلام المخاض، وأن شدة المرض قد عجلت في إنزال الجنين قبل أوانه.
لم يَطلَّ الفجر بخيوطه إلا والأم تضع في حجرها وليدها، الذي لم يصرخ حين خروجه إلى الدنيا، ولم يفتح عينيه، لا تدري أهو استخفافًا بهذه الحياة التي دفعت به إلى أتونها قبل أن يستكمل شهوره التسعة في بطنها كبقية الأطفال، أم أن وطأة المرض الذي كانت تعاني منه الأم قد وصلت آثاره إلى الجنين المسكين؟.
ــ قالت الجدة: أهو ميت؟ إنه لا يصرخ ولم يفتح عينيه.
ــ قالت الأم بصوت ضعيف وهي تتأوه:
ــ لا، بل هو حي، إنه يتنفس ويلقم ثديه.
كانت الجدة تود لو أنه ولد ميتًّا، إنه الابن الثاني لبكرها، كانت تحب أخاه الأكبر، ويوم علمت أن أمه حامل أعلنت احتجاجها ورفعت صوتها:
ــ هل ستفطمين عليًّا وهو لم يذق اللبن بعد، من أجل هذا الملعون الذي في بطنك؟
ــ إنها إرادة الله يا عمة، وليس لنا إلا التسليم لأمره.
كانت الجدة تنظر إلى هذا الوليد الأعمى الأبكم نظرة تخوّف، وتود لو يرحل عن الحياة، إن حبها لأخيه أعمى بصرها وغطى على قلبها.
أما الأم فهي مشغولة بمرضها والذي تضاعف مع آلام الولادة.
مع شروق الشمس تناولت الأم النفساء ما قدم لها من القهوة والتمر، وأصبح أهل البيت الكبير يتحدثون عن مولود أعمى أبكم.
كم يشفقون عليه وعلى أمه المريضة.
لم يكن أبوه موجودًا بل كان في مهمة عسكرية في مدينة (العبر )، أما جده فهو في عدن استعدادًا للسفر إلى الحج، كان عمه العشريني هو أكبر من في البيت في ذلك اليوم، فسافر إلى عدن ليدرك أباه قبل أن يسافر، وفي عدن أخبر الجد أنه ولد لأخيه ولد قاصر، لم يطلق أي صرخة، ولا يريد أن يفتح عينيه ليرى من حوله.
ــ الحمد لله على أقداره، على العموم قم بابني بالواجب واختنوه إن سلم من الموت.
المهم إن أمه بخير؟
ــ الحمد لله، هي على ما يرام وفي تحسن مستمر، لعل مرضها كان بسبب الحمل.
بعد مرور خمسة عشر يومًا حصلت المفاجأة، الوليد يستهل صارخًا ويعلن للأهل أنه سيشق طريقه إلى الحياة، التفتت الأم إلى وليدها الصارخ، أخذته إلى حجرها تودّ لو يصرخ ويصرخ فهي ترى ذلك إعلان حياته ورفضًا للموت، والمفاجأة الأخرى أن (القاصر) كما تسميه الجدة، فتح عينيه وأخذ يقلب بصره في وجه أمه وفي سقف الغرفة الكبيرة، كان أبيض اللون مُشرّب بحمرة، أسود الشعر، واسع العينين، عريض الجبهة، كثير الصراخ، دائم الحركة، كل يوم يمر عليه يزداد قوة وحيوية.
رضع من أمه حولين كاملين، وهو الوحيد بين إخوانه الذكور التسعة الذي رضع هذه المدة، وكانت أمه ترد عافيته وقوة بدنه وحيويته إلى هذا السبب، وكانت بعد ذلك تقول له: أنت الوحيد الذي شبع من لبني، لابد أن تكون أبرَّ إخوانك بي.
حين بلغ ثلاث سنوات فقد جده الحنون الذي لا يذكر منه إلا طيفًا عابرًا، لقد أُدخل جده السجن في ظل جنون الشيوعية الحمراء، وكذلك سجن عمه غير الشقيق والذي يكبر أباه بسنوات، وبعد مرور عام كامل في السجن أعدم عمه، وأُخرِج جده من السجن مريضًا، ثم لم يلبث من شدة مرضه وتعذيبه في السجن أن مات.
كان جده يحبه حبًّا جمًّا كما أخبروه بعد ذلك، كان كثيرًا ما يضعه في حجره، وربما بال على ثيابه فتحتج الجدة ويبتسم الجد.
ــ أنزله من حجرك لقد بال في ثيابك.
ــ دعيه يبول في ثيابي، فمن لم يَبُلْ أبناؤه في ثيابه بال الناس على رأسه.
لعلها من فلسفة الواقع الذي عاشه الجد.
تضحك الجدة مستهزئة ثم تقول: أبعد عنك هذا القاصر، انظر إلى رأسه الكبيرة.
ــ رأسه كبيرة لأن فيها دماغًا كبيرًا سيكون ابني هذا عاقلًا ذكيًا.
كان متعلَّقًا بجده بشدة، ولم يغضب منه إلا مرة واحدة، حينما جاء فريق التطعيم فأمسك به الجد، والطبيب يغرز الحقنة في كتفه الأيسر وهو يصرخ بصوته القوي والجد لا يرحمه، ولقد تركت هذه الحقنة في كتفه علامة، كلما رآها تذكر جده.
كانت الجدة وأمها التي تزورها بين الفينة والأخرى يحبان أخاه حبًّا جمًّا، ولم يلتفتا إلى الطفل المسكين، كان كثيرًا ما ينظر إليهما وهما يحتضنان أخاه ويقبلانه ويتبادلان حمله وهو يراقب المشهد دون أن يحظى بلفتة منهما، لا يزال يتذكر وجه أم جدته، كانت بيضاء جميلة، عظيمة الأنف، واسعة العينين، كثيفة الرموش، عريضة الجبهة، دائرية الوجه، جهورية الصوت، قوية مهابة تشبه صور التماثيل التي رآها فيما بعد في كتب التاريخ.
لقد كانتا تجودان على أخيه بالخبز والتمر والبسكويت والحلوى، ولو سوَّلت له نفسه الاقتراب منهما فمصيره الضرب والنهر والتقريع، لكنه لا ييأس، كان يعلم أن أخاه بحكم ضعف بدنه لن يقوى على التهام كل ما يقدّم له، وأن ما يتناثر من هذه العطايا على الأرض هو أكثر مما يأكله أخوه، فينتظر حتى تقوم الجدَّات ليلتهم ما خلَّفه أخوه.
.