الصيام تحرر وبناء للشخصية المسلمة المستقلة

الصيام ليس مجرد فريضة يؤديها المسلم؛ بل هو ثورة داخلية، وتحرر من قيود النفس، وانطلاقة نحو العبودية الحقيقية لله وحده. إنه رحلة تصقل الروح، وتعيد تشكيل الإنسان على مقاييس التقوى والإرادة والعزة، فتُحرِّرُه من شهواته، وتجعله أكثر استقلالا في فكره وسلوكه، وأكثر قدرة على مواجهة التحديات. إنه ليس امتناعا عن الطعام والشراب فحسب، بل امتناع عن كل ما يُضعِف الإرادة، ويُشوِّه الفطرة، ويستعبد الإنسان لشهواته أو لأهواء غيره.

للصيام مكانة عظيمة في الإسلام، فهو عبادة خالصة بين العبد وربه، يكفي في بيان شرفه أن الله عز وجل نسبه إلى نفسه فقال في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به». وقد بيَّن الله سبحانه الغاية من الصيام في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. فالتقوى ليست مجرد ترك الحرام؛ بل هي حالةٌ من التحرر من عبودية الهوى، والسمو فوق مغريات الدنيا.

وكان السلف الصالح يُعظِّمون هذا الشهر، فيُعدّونه موسما لتحصيل التقوى الحقيقية، لا مجرد انقطاع عن الأكل والشرب؛ بل انقطاع عن الغفلة والذنوب. قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا صمتَ فليصُم سمعُك وبصرُك ولسانُك عن الكذب والمحارم، ودَعْ أذى الجار، وليكن عليك وقارُ الصائم، ولا يكن يومُ صومك ويومُ فِطْرِك سواء".

وفي عالم تكثر فيه الشعارات عن الحرية، يأتي الصيام ليُقدِّم الحرية الحقيقية: التحرر من كل ما يُبعِد القلب عن الله، والتحرر من عبودية الشهوات والماديات. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "الحرية الحقيقية هي التخلص من رق الشهوات، فمن لم يكن عبدا لله، استعبدته شهواته وأهواؤه".

وهنا يظهر الفرق بين من يصوم ليتحرر، ومن يصوم مجرَّد عادةٍ. فالأول يخرج من رمضان إنسانا جديدا، قد كسَرَ قيود نفسه، أما الثاني فيظل يدور في فلك عاداته القديمة، لا يُدرك معنى الصيام إلا في حدود الجوع والعطش.

جعل الله الصيام وسيلة لكبح الهوى؛ قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ﴾. ولهذا كان النبي ﷺ يحثُّ على ضبط النفس في الصيام، فقال: «الصيام جُنَّة، فإذا كان يوم صومِ أحدِكم، فلا يرفثْ، ولا يصخبْ، فإن سابَّه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائمٌ».

إنه دورة تدريبية مكثفة على التحكم بالشهوات، والتدرج في ترويض النفس، حيث يتعلم الصائم أن يكون سيد إرادته، لا أسير رغباته، فيرتقي بنفسه إلى مستوى السيادة على شهواتها، مصداقا لحديث النبي ﷺ: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».

إن كثرة الطعام تُثقِل العقل، وتُقيِّد الفكر، في حين أن قلة الطعام تُصفِّي الذهن، وتُحفِّز الفكر السليم. قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: "إذا جاع القلب وعطش، صفا ورقَّ، وإذا شبع عمي وقسا".

ولم يكن الصيام عبادة فردية فحسب، بل كان محطةً لصناعة الأحداث الكبرى في التاريخ الإسلامي، ففي رمضان وقعت غزوة بدر الكبرى، وفتح مكة، ومعركة عين جالوت، وحطين، حيث صنع الصيام إراداتٍ قوية، لم تستسلم للجوع والعطش، بل جعلت من الجسد وسيلة لتحقيق معالي الأمور.

والصيام يُعزِّز الاستقلالية الفكرية، ويمنح المسلم قدرة على اتخاذ القرار الصحيح بعيدا عن ضغط المجتمع. فالأمة التي تصوم بوعي تُصبح أمة حرة لا تقبل الذل، أما إذا تحول الصيام إلى عادة، فإنه لا يُغيِّر من واقعها شيئا. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلَّنا الله".

وحين يكون الصيام عبادة واعية، فإنه يُحرر الأمة من ضعفها واستعبادها، فتتحول العبودية لله إلى مصدر قوة ومنعة، كما حدث في بدر وفتح مكة.

إن الصيام ليس مجرد طقس فردي؛ بل هو رابط جماعيٌ، يوحِّد المسلمين على الطاعة، ويُعلِّمهم قيمة الأخوة والتكافل. قال ﷺ: «الصيام جُنَّةٌ»، أي وقاية، وليس وقاية للفرد فقط؛ بل للأمة من التفرق والضعف والضياع.

فليسأل كل منَّا نفسه: هل سأجعل من صيامي وسيلة للتحرر من شهواتي وعاداتي، أم سأظل أسيرا لها رغم عبادتي؟ هل أثّر صيامي في شخصيتي وسلوكي اليومي؟ وكيف أضمن أن يستمر أثر الصيام بعد رمضان؟

إن الصيام ليس غاية، بل وسيلة للتحرر الحقيقي، لمن وعى أسراره. فمن جعل الصيام سُلَّما للارتقاء، فقد ربح، ومن جعله عادة بلا روح، فقد ضيَّع أعظم مدرسة ربانيةٍ تهذِّب النفس، وتبني الشخصية المسلمة المستقلة.

والله تعالى أعلم!

وتقبل صيامكم وسائر قرباتكم.