جامعة دثينة في كوفة العراق

كتب: أبو زين ناصر الوليدي

أشرقت شمس الإسلام على الدنيا بعد أن غرقت في ظلمات الشرك والظلم والجهل والخرافة والاستبداد، ولم يعد في الأرض خيط من نور ولا ثقب من أمل، وفي هذه اللحظة الفارقة كانت الدنيا على موعد مع عملية إنقاذ عظمى تأتيها من فوق السماء، ومن عجائب تقدير الله تعالى أن عملية الإنقاذ هذه لم تأت إلى حواضر العالم الكبرى في بلاد فارس والروم والهند والصين والفرنج، بل إلى جزيرة العرب حيث تتناثر القبائل العربية في الصحاري والقفار وبعض المدن المتباعدة، وتنزل إلى قوم أميين مزقتهم الحروب والأصنام والخرافات والجهالات، وليس لديهم سابق معارف ولا فلسفات ولا معاقل ولا معاهد للعلم والمعارف، فقد كانوا أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب.
في ليلة من ليالي الدنيا جاء الأمر الإلهي بانطلاق عملية إنقاذ شاملة، ولتكن نقطة البداية حيث تقع الكعبة البيت العتيق الذي تعظمه العرب وتقدسه، وهذا سيسهل قبول النفس والوجدان العربي القبلي للتعاطي مع عملية الإنقاذ تلك، ولم يكن أحد من العرب فضلا عن غيرهم يمتلك المؤهلات التي يمتلكها *محمد بن عبد الله بن عبد المطلب* ليكون بطل عملية الإنقاذ تلك وقائدها ورائدها وحامل أعبائها ورافع رايتها ومعلن لحظة بدئها.
صدر الأمر إلى جبريل عليه السلام فانطلق من أعلى السموات حاملا معه مشروع الإنقاذ ذلك ليسلمه إلى الرجل المكلف بقيادة العملية.
كان *محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي*  منفردا بنفسه وتأملاته في غار حراء ولم يرعه إلا جبريل ليقول له *( اقرأ باسم ربك الذي خلق)* . وفي تلك اللحظة بدأت قصة كبيرة ملأ صداها أركان الأرض الأربعة وأطباق السماء السبعة، قصة اهتز لها العرش ورجفت لها الجبال وضحكت لها السحاب ونطق فيها الحجر والشجر واحتارت الجن واختلفت الإنس وتغيرت الجغرافيا والتاريخ وتبدلت قواعد الحياة وتحالفات الدول وحروف اللغات وأديان الشعوب.
في مكة حيث تقيم قريش ومن معهم، بدأت تلك القصة الكبرى والتي لا زالت فصولها مستمرة إلى كتابة هذه الحروف.
تصدى النظام القرشي لعملية الإنقاذ هذه، لأنه لم يستوعبها، ولأنه أيضاً شعر أنها تمثل خطراً على كيانه المتداعي، لم يكن نظام قريش يتجاوز  حدود مكة بينما كان مشروع عملية الإنقاذ هذا  يتطلع إلى حيث يبلغ الليل والنهار على هذه الأرض. 
صرخ *النبي محمد* بدعوته من على جبل الصفا وهو اليتيم والوحيد والفقير غير عابيء بالنظام القرشي ولا بأركانه وأفكاره وبدأت لحظة الاشتباك بين مشروع الحق النازل من السماء ومشروع الباطل القائم على المصالح الضيقة والأفكار الخرافية........... 
.....
كان في مكة صبي من الضعفاء الفقراء الذين نزل آباؤهم يوما إلى مكة بحثا عن سبل الحياة، فقد جاء آباؤه من قبيلة هذيل إلى مكة طلبا للأمن والاستقرار وفرص العمل.
كان ذلك الغلام راعيا لبعض الأشراف من مكة، ليس له في الحياة هدف سوى إشباع أغنام ذلك المستكبر والإشراف على تربيتها ورعايتها، ولم يكن يتطلع إلى أي أحلام وسط هذه الأوضاع التائهة التي لا تتيح للمستضعفين فرص الأحلام فضلا عن فرص تحقيقها.
كان الصبي مشغولا بأغنامه وقريش تتقلب على جمر الغضى خوفا من دعوة *محمد* التي تهدد كيانها وتهز أركانها، كان الغلام *(عبد الله)* يمتلك عقلا ذكيا عبقريا تحليليا ولكن ماذا سيستفيد من هذا الذكاء وهذه العبقرية ؟ هل يوجهها لتسمين الأغنام وإصلاح الحضائر ؟!!  
في يوم لن ينساه ذلك الغلام وبينما كان راعيا في أغنامه خارج مكة إذ أقبل إليه *محمد* في عدد من أصحابه وطلب منه لبنا يروي به ظمأه ويسد به جوعته، ولكن الغلام اعتذر *لمحمد* بحكم أنه لا يملك الغنم وهو مجرد أجير مع صاحبها، وهذا لا يتيح له أن يعطي اللبن من سأله.
فطلب منه *محمد* شاة ليس فيها لبن، فلبى الطلب مستغربا وكأنه يكتم ضحكة خلف شفتيه الصغيرتين، وما أن تناول *محمد* الشاة حتى اعتقلها وهمهم بكلمات، فإذا الشاة حافل باللبن!. فيحلبها *محمد* ويشرب ويسقي أصحابه ويدع ما بقي لذلك الغلام.
كان الغلام النحيف مبهورا مما رأى، وكان قد ترامى إلى سمعه بعض من أخبار صراع قريش مع *محمد* ودينه الجديد، وقبل أن ينصرف *محمد* ناداه الغلام وقد استبد بوجدانه شعور غريب :
 يا محمد ... 
 علمني مما علمك الله!!! 
فيلتفت إليه *محمد* ويسعى نحوه ويمسح برأسه ويقول له : إنك غلام معلم.
 ومن ساعتها التحق الغلام الهذلي *عبد الله بن مسعود* بركب الإيمان وموكب الخير متحملا تبعات ذلك القرار الخطير، والتصق *بمحمد* وتعلق قلبه بدعوته حتى استبدت بكيانه كله فلم يعد يرى في الدنيا شيئا غيرها، فصغرت في عينه قريش الكبيرة وتضاءلت في نظره أصنامها ودعاواها ومكونات ثقافتها، فشعر أن للحياة فلسفة مختلفة تختفي عندها معظم منتجات الفكر البشري الذي يحيط به، فأدرك بعقله العبقري أن عليه أن يعيد ترتيب أفكاره وأحلامه وتطلعاته وتصوراته للكون والناس والحياة وما بعد الحياة، فامتلأت روحه قوة وحيوية ونشاطا وثقة وتطلعا.
لقد فهم رسالة *محمد* بعمق، وفهم مراميها وأهدافها وذلك من خلال القرآن الكريم الذي يتنزل على قلب *محمد* فيلقيه عليهم وهم يصغون إليه بكل جوارحهم، حتى لم تكن لتفوت الفتى آية من وحي السماء سواء أنزلت في الليل أو أنزلت في النهار، فلا ينام إلا وهو يردد آيات القرآن ويتفحص معانيها، ولا يصحو إلا وهو متلهف للذهاب إلى *محمد* ليسمع منه المزيد الذي سيروي روحه الظامئة، وهكذا بنى القرآن الكريم والنبي العظيم عقل وقلب وفكر وروح *عبد الله بن مسعود* ليصنع منه أستاذا عظيما يحمل مشروع الإنقاذ ويفهمه بكل تفصيلاته.
 أكثر من عشر سنوات قضاها الغلام المعلم في مكة تلميذا بين يدي المعلم العظيم صلوات الله عليه، ثم انتقل معه إلى المدينة لمواصلة مسيرة النور والانقاذ، وفي المدينة  وضع الرسول صلى الله عليه وسلم بذرة دولته بيديه الشريفتين في تربة الأنصار الخصبة فسقاها الأنصار بدمائهم وأرواحهم وأموالهم وأبنائهم وأحلامهم وكل إمكانياتهم فإذا هي تنمو وتنمو حتى تعانق السحاب في السماء.
وابن مسعود لا يكاد يفارق أستاذه صلوات الله عليه حتى ظن بعض الناس أنه من أهل بيته.
ومن المدينة تصل إشعة النور إلى سماء (دثينة) ذات ليلة فترسل دثينة من أبنائها من يستطلع الأخبار، وهناك يجدون الخبر اليقين والخير الكثير ويشاركون الرسول صلى الله عليه وسلم فتح مكة لحظة هزيمة قاعدة الباطل، ثم يعودون إلى دثينة يزفون البشرى، ويأتي معاذ بن جبل ليشرح لأهل دثينة مشروع الإنقاذ ويبسط بين يديهم مفرداته، فينطلق مائتان من قياداتهم كممثلين لمن وراءهم معلنين انخراطهم في الدين الجديد والمشروع الكبير.
 ويرحل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه بعد أن استكمل مشروعه وبلغ رسالة ربه وسلمه إلى أيادي أمينة، ويأتي الصديق رضي اللّه عنه ويواصل السير ويبدأ بإرسال المعلمين والدعاة وكتائب الإنقاذ إلى أطراف الجزيرة العربية، ولكن الموت يعاجله وكتائبه في حالة اشتباكات مع مشاريع الشر، فيتسلم الراية عمر بن الخطاب العبقري فيدمر بنيان الباطل بجيوش الحق والنور، فيصدم الإمبراطورية الفارسية صدمات تنقلها إلى مقبرة التاريخ بعد أكثر من ألفي عام من المجد والفخر والسلطان الباذخ، وفي الشام تجمع الإمبراطورية الرومانية أغراضها فتغادر الشام إلى غير رجعه بعد عدة نكسات وهزائم تعرضت لها، ثم تسير كتائب الإنقاذ إلى مصر وما وراءها فيجنح الروم إلى الهروب بعد أن دمغ الله باطلهم، ويرضون من الغنيمة بالإياب.
 وفي العراق الإسلامية شيد المسلمون المدن الجديدة بطابعها الإسلامي المعبر عن هويتها ومشروعها، فبنيت البصرة، بناها القائد عتبة بن غزوان رضي الله عنه ثم بنيت الكوفة على يد قائد جيوش القادسية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
ولما كان معظم أهل دثينة في جيوش فتح العراق فإنهم بالتأكيد سيقيمون في مدينة الكوفة فهم أبطال القادسية وما بعدها من أيام الله، وقد ذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان أن أهل اليمن نزلوا في الجانب الشرقي من المدينة وكانوا اثني عشر ألف نسمة مكونين ستة آلاف دار (٤/ ٤٩٢) .
وفي طبقات ابن سعد عن إبراهيم النخعي أن ثلاثة مائة صحابي من أصحاب الشجرة كانوا في من نزل الكوفة (٦ /٩) . 
وقال قتادة: نزل الكوفة من الصحابة ألف وخمسمائة، منهم أربعة وعشرون بدريا كما في الإرشاد للخليلي (٢/٥٣٣)
وما ان تأسست الكوفة وبني فيها جامعها الكبير والذي سيكون الجامعة التي يتعلم فيها الناس الإسلام ورسالته الخالدة، وكانت الكوفة مركز العراق كان على عمر بن الخطاب أن يختار أستاذا عظيما مستوعبا استيعابا كاملا لمعاني ومقاصد وأحكام رسالة هذا الدين، ولابد أن يكون ذلك من أنجب تلاميذ الرسول صلى الله عليه وسلم وممن صحبوه زمنا طويلا والتصقوا به، وكانوا يمتلكون المؤهلات النفسية والعقلية والروحية الكافية للقيام بدور الرسول صلى الله عليه وسلم في العراق، فلم يجد عمر مثل عبد الله بن مسعود الهذلي ذلك الشاب النحيف الذكي الزكي الذي كان يوما راعيا في أغنام عقبة بن أبي معيط وصنع منه الإسلام مثالا لقدرته الهائلة على تحويل رعاة الغنم إلى قادة أمم، وكان ابن مسعود من ألصق الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه لم يكن يريد أن يفوته درس من دروس معلمه الكبير صلوات الله وسلامه عليه.
روى أحمد في المسند عن عبد الله بن مسعود أنه أخذ من في النبي صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وعرض عليه القرآن الكريم في آخر رمضان مرتين./مسند أحمد (٥/ ٣٢٤).
وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: قدمت أنا وأخي من اليمن ومانرى عبد الله بن مسعود إلا رجلا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لما نشهده من كثرة دخوله ودخول أمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري كتاب المغازي حديث رقم (٤٣٨٤) .
وفي سير الذهبي قال أبو مسعود البدري: لا والله لا أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك أحدا أعلم بكتاب الله من هذا القائم. يعني ابن مسعود (١/ ٤٦٢) .
وقال عنه الإمام الذهبي: كان معدودا في أذكياء العالم. السير (١/ ٤٦٢) 
فلهذا كله دعا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عبد الله بن مسعود وكلفه بالذهاب إلى الكوفة لتعليم الناس الدين ونشره هناك، وكتب إلى أهل الكوفة : (إني قد بعثت إليكم عماراً أميراً، وابن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب محمد، من أهل بدر، فاسمعوا لهما واقتدوا بهما، *قد آثرتكم بعبد الله على نفسي)* كما في سير أعلام النبلاء(١/ ٤٨٦) والمستدرك (٣/ ٤٣٨) 
وصل الإمام الجهبذ الكبير ابن مسعود إلى الكوفة عام ١٧ هج ليقوم بأعظم مهمة هناك، وفي مسجدها أقام أعظم جامعة للقرآن وعلومه وللحديث وعلومه وللفقه وعلومه.
قال محمد حسين الذهبي: قامت مدرسة التفسير في العراق على يد عبد الله بن مسعود.
التفسير والمفسرون( ١/ ٩١) 
فهرع أبناء دثينة للجلوس بين يدي عبد الله بن مسعود لينهلوا من معينه العلم والدين والهدي الذي تلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا أنبل وأذكاء طلابه، وأكثرهم قربا والتصاقا به حتى كانوا هم المقدمين في كل علم وفي كل فن، وكان ابن مسعود يملي عليهم المصاحف عن ظهر قلب كما في سير الذهبي (١/ ٤٧٦) 
وأحاط أبناء دثينة بابن مسعود فهم سباقون إلى كل مكرمة فكما كانوا هم أبطال فتح العراق في القادسية وغيرها فهم اليوم أبطال العلم والفقه والدين، حتى أصبح منهم أساتذة ومعلمون في زمن قصير مع وجود شيخهم ابن مسعود.
قال إبراهيم النخعي: كان أصحاب عبد الله الذين يقرئون الناس القرآن ويعلمونهم السنة ويصدر الناس عن رأيهم ستة: علقمة (النخعي) والأسود (النخعي).. وذكر بقية الستة.
وقال علقمة النخعي: قرأت القرآن على ابن مسعود في سنتين.
كما في كتاب معرفة القراء الكبار (١/ ٤٥) .
ولم تكن تلك قراءة حفظ وضبط فقط بل كانت قراءة تفسير وعلم ووعي وفهم وإرشاد ولهذا قال مسروق بن الأجدع: كان عبد الله يقرأ علينا السورة ثم يحدثنا فيها ويفسرها عامة النهار. تفسير الطبري (١/ ٣٦) .
فكانت هذه الجامعة (جامعة دثنية) بحق، فقد تخرج منها من النخع علقمة والأسود وعبد الرحمن ويزيد ومليكة وبعدهم إبراهيم النخعي وغيرهم كثير.
وكان علقمة النخعي يشغل دور المعيد في هذه الجامعة فهو الرجل الثاني فيها بلا منازع.
يقول رباح بن أبي المثنى: كان عبد الله وعلقمة يصفان الناس صفين عند أبواب كندة فيقرىء عبد الله رجلاً ويقرىء علقمة رجلاً، فإذا فرغا تذاكرا أبواب المناسك وأبواب الحلال والحرام، فإذا رأيت علقمة فلا يضرك ألا ترى عبد الله بن مسعود. أشبه الناس به سمتا وهديا.
سير الذهبي (٤/ ٥٥) .
وقال علي بن المديني: أعلم الناس بابن مسعود علقمة النخعي والأسود النخعي وعبيدة والحارث. 
سير الذهبي (٤: ٥٥ )
وقال علقمة النخعي: كنت رجلا قد أعطاني الله حسن الصوت بالقرآن وكان ابن مسعود يرسل إلي فاقرأ عليه، فإذا فرغت من قراءتي قال : زدني فداك أبي وأمي.
 السير (٤/ ٥٨) 
وهكذا سطع نجم أبناء دثينة في الكوفة حتى أصبحوا مراجع في الدين والجهاد والقيادة بل حتى أصبح بعض الصحابة رضي الله عنهم  يرجعون إليهم.
فقد قال قابوس بن أبي ظبيان لأبيه: لأي شيء كنت تأتي علقة النخعي وتدع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبوه: أدركت ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسألون علقة ويستفتونه. 
السير ( ٤/ ٥٩) .
ولهذا فإن مقريء الكوفة فيما بعد عبيد بن نضلة كان قد أخذ القرآن عن علقمة: طبقات ابن سعد.(٦: ١١)
وكان ابن مسعود يعرف للنخعي قدره ويضعه في مكانه الذي يليق به ويشيد به عند طلابه علهم يستفيدون منه إذا غادر هو الكوفة يوما.
ففي تذكرة الحفاظ للذهبي (١/ ٤٨) 
قال ابن مسعود: ما أقرأ شيئا ولا أعلم شيئا إلا وعلقة يقرؤه ويعلمه.
ويؤكد الباحث في علوم القرآن الدكتور فهد الرومي أن علقة بن قيس النخعي كان أشهر تلاميذ ابن مسعود والمقدم فيهم.
دراسات في علوم القرآن ص٣٦ .
ويستمر ابن مسعود في مشروعه العظيم الذي تلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم ويستمر معه طلابه في استيعاب هذا المشروع بكل تفاصيله وعلى رأسهم نخع دثينة الميامين، وهكذا تمضي السنون سنة بعد سنة وهم في توسع وامتداد وتوارث للدين والعلم والهدي وتشييد بنيان الإسلام على أنقاض الإمبراطورية الفارسية ويدخل معظم الفرس في الإسلام ويستمر الإسلام في تمدده الجغرافي والفكري وأنوار تلك الجامعة تشع على دنيا العراق.
وبعد خمسة عشر عاما قضاها ابن مسعود رضي الله عنه في الكوفة يقرر العودة إلى المدينة وذلك عام ٣٢ هج بعد أن أسس جامعة عظيمة كان لها أثرها الكبير في تاريخ الإسلام العلمي والفكري، فمنها تخرج أكابر محدثي العراق حتى قيل أن أصح الأسانيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم: الأعمش عن علقمة النخعي عن ابن مسعود. 
كما يرى الإمام يحيى بن معين كما في كتاب فتح المغيث (١/ ٣٤) 
وترك فيها مدرسة قرآنية متينة الأساس، فإلى هذه المدرسة تنتهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي وخلف.كما ذكر ذلك الجزري في كتابه
 غاية النهاية في طبقات القراء (١/ ٤٥٩) .
ومن جذور هذه المدرسة تخرج فقهاء كبار من التابعين منهم إبراهيم النخعي وغيره والذين كانوا الأساس الذي بني عليه المذهب الحنفي.
غادر ابن مسعود الكوفة وقد ترك فيها جامعة قائمة بكل أركانها.
وقبل أن يغادر الكوفة جمع طلابه وأوصاهم وودعهم فكان مما قاله لهم وهو يحثهم على الثبات والاستمرار في ما بدأ به: 
والله إني لأرجو أن يكون قد أصبح اليوم منكم من أفضل ما أصبح في أجناد المسلمين من الدين والفقه والعلم بالقرآن. 
مسند احمد (٥/ ٣٢٤) 
ويؤكد إبراهيم التيمي أن ابن مسعود لم يغادر الكوفة حتى ترك على الأقل ستين عالما من طلابه.
طبقات ابن سعد: (٦: ١٠ ) .
وقال سعيد بن جبير التابعي المشهور: 
أصحاب ابن مسعود سرج أهل هذه القرية، يعني الكوفة.
 تاريخ ابن أبي خيثمة (٤/ ٣٨٦) .
ما ان وصل ابن مسعود رضي الله عنه إلى المدينة حتى ألم به مرض فكانت فيه وفاته، وكان عمره بضع وستون سنة في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة ٣٢ هج.
دفن في البقيع وهناك ووريت عظامه ولكنه حقا لم يمت فقد بقيت جامعته التي أفنى فيها زهرة عمره وخلفه عليها بنو النخع وإخوانهم من علماء الكوفة....