رمضان والتوعية القَبْلية: نحو نهضة روحية ومجتمعية

من سنن الله في الكون أن يسبق العلم العمل؛ إذ لا يُتصور أن يُحسن الإنسان العبادة أو يصلح المجتمع دون إدراك واعٍ لأحكام الدين وأولويات الإصلاح. ومن هنا، فإن التوجيه والإرشاد حول رمضان ينبغي أن يسبقه بمدة كافية، لا أن يكون خلال الشهر نفسه؛ حتى يكون الناس على وعي بما يجب فعله من عبادات، وتجنب ما قد يشوب صيامهم وأخلاقهم من تقصير أو تفريط.

لذلك فإن شهر شعبان ورجب يمثلان فرصة ذهبية لإعداد النفوس لاستقبال رمضان بروحانية عالية؛ فلا يفاجأ المسلم بدخول الشهر وهو لا يدري كيف ينظم عباداته، أو كيف يوازن بين العبادة وأعماله الدنيوية، أو كيف يحقق المعنى الأسمى للصيام وهو "التقوى". كما أن إفراد خطب ودروس ومواعظ رمضان فقط للموضوعات المتعلقة برمضان يجعلها تدور في فلك واحد؛ في حين أن استثمار إقبال الناس على المساجد في قضايا أوسع تخدم المجتمع، يُعدّ نهجا أكثر نضجا وفاعلية.

إن العبرة ليست في إلقاء المواضيع حول فضائل الصيام أثناء رمضان؛ بل في استثمار روح الشهر في إصلاح ما يعتري المجتمع من مشكلات متجذرة. فإذا كان رمضان مدرسة تهذيب للنفس؛ فلماذا لا يكون أيضا مدرسة إصلاح للمجتمع؟ إن إقبال الناس على بيوت الله في هذا الشهر فرصة ذهبية ينبغي استثمارها في التوعية بقضايا كبرى؛ كالأمانة، والمسؤولية، واحترام القوانين، والحفاظ على المرافق العامة، والحدّ من الفساد والإسراف.

ولذلك يجب أن تكون دروس رمضان متعلقة بواقع الناس وحياتهم اليومية، وليس فقط في الأمور الشعائرية، فالصلاة والصيام لا يقتصران على الحركات الظاهرة؛ بل تشمل أيضا سلوك الإنسان في معاملاته، واحترامه لحقوق الآخرين، ووعيه بواجبه تجاه مجتمعه وأمته.

وليس الخير محصورا في العبادات الفردية؛ بل هناك أعمال جماعية لو انتشرت في المجتمع لأحدثت تغييرا جذريا في نمط الحياة. ومن هذه الأعمال:

- الالتزام بالذوق العام واحترام القوانين في رمضان وغيره من الشهور؛ فلا يجوز أن يكون شهر العبادة شهر الفوضى، حيث يعتدي البعض على حقوق الآخرين في الطرقات والأسواق، أو يتجاوزون النظام بحجة الاستعجال للصلاة أو الإفطار مثلا.

- المحافظة على الممتلكات العامة؛ فهي أمانة في عنق الجميع، فلا يجوز العبث بها أو إهمالها، لأنها حق مشترك للأمة.

- نشر الأمن والسكينة في المجتمع؛ فليس من روحانية رمضان ولا من أخلاق المسلمين افتعال الخصومات في الشوارع والأسواق، أو التهاون في تطبيق الأخلاق الإسلامية الراقية.

- تعزيز القيم الحضارية للإسلام؛ كالتعاون والتكافل الاجتماعي، والعناية بالنظافة والجمال في الأماكن العامة، والاحترام المتبادل بين الناس.

وكما أن هناك معروفا جماعيا ينبغي التوعية به، فإن هناك منكرات اجتماعية لا ينبغي السكوت عنها؛ لأنها ليست مجرد مخالفات فردية؛ بل تتحول مع الوقت إلى ظواهر تهدد نسيج المجتمع وأخلاقياته. ومن هذه المنكرات:

- إلقاء القمامة في الشوارع والطرقات، وهو مظهر من مظاهر التخلف، يعكس عدم احترام الدين والبيئة والمجتمع.

- الإسراف في الموارد؛ سواء في الطعام والشراب، أو في استهلاك الكهرباء والمياه، وهو أمر نهى عنه الإسلام أشد النهي.

- الفساد الإداري والمالي؛ فلا يستقيم حال الأمة إذا انتشر التلاعب بالحقوق، أو تفشى الظلم في المعاملات.

- المعاكسات والتحرش والتعدي على الآخرين، وهي سلوكيات تخالف قيم الإسلام، ولا يجوز التهاون في إنكارها أو السكوت عنها.

- البلطجة والتعسف؛ سواء في العمل أو في التعاملات اليومية، وهي من مظاهر الظلم التي توعد الله أصحابها بعقاب شديد.

إن مسؤولية الإصلاح لا تقع فقط على عاتق العلماء والخطباء؛ بل هي واجب جماعي يتطلب تكاتف الجميع. فمن واجب كل فرد أن يكون داعما للخير، مناهضا للمنكر، ولو بأضعف الإيمان وهو الكلمة الطيبة والنصيحة الحسنة.

وقد أرشدنا النبي ﷺ إلى أن تغيير المنكر درجات، تبدأ بالقلب، ثم باللسان، ثم باليد لمن يملك السلطة، وهذا يعني أن المسؤولية موزعة على الجميع، وأن السكوت عن الخطأ هو مشاركة فيه.

ختاما؛ رمضان ليس فقط شهر الصيام والقيام؛ بل هو فرصة عظيمة لإعادة ترتيب الأولويات، وتصحيح الأخطاء، وبناء مجتمع أكثر وعيا بمسؤولياته. وإن من أعظم القربات إلى الله أن نُحيي في الأمة روح الإصلاح، وأن نجعل من هذا الشهر نقطة انطلاق نحو مجتمع أكثر نقاءً، وأمة أكثر وعيا برسالتها.

فليكن رمضان هذا العام مختلفا؛ ليس فقط في عباداتنا؛ بل في أخلاقنا وسلوكياتنا، ولنكن جميعا دعاة إلى الخير، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، ساعين إلى بناء حضارة تليق بمكانة الإسلام!

بلغكم الله رمضان!

وأعانكم على صيامه وقيامه!

ودمتم سالمين!