دموعاً كاد يخفيها المعلم.
بقلم: موسى المليكي.
تخيل أنك تعود إلى منزلك كل يوم، مُنهكًا، لكن ليس من العمل فقط، بل من التفكير، من القلق، من العجز. تخيل أن تنظر في عيون أطفالك وهم يترقبونك عند الباب، ينتظرون أن تحمل لهم شيئًا بسيطًا، ربما قطعة خبز إضافية، ربما حبة فاكهة، ربما فقط كلمة تطمئنهم بأن الغد سيكون أفضل. لكنك لا تستطيع حتى أن تكذب عليهم بعد الآن.
تخيل أن تقف أمام بائع الخضار، تراقب الألوان الزاهية، تشم رائحة الفاكهة الطازجة، ثم تبتلع غصتك وتمضي وكأنك لم تكن هناك. أن تُخفض رأسك وأنت تمر بجانب صاحب البقالة، خوفًا من نظرة عتاب أو تذكير بدين متراكم، دين لم يعد لديك القدرة حتى على التفكير في سداده.
تخيل أن يمرض ابنك، يئن طوال الليل وأنت تجلس بجانبه، لا تملك ثمن الدواء، ولا حتى أجرة الطريق إلى المستشفى. أن ترى زوجتك تراقبك بصمت، تحاول أن تخفي دموعها حتى لا تزيد من وجعك، لكنها تعلم، وأنت تعلم، أنكما محاصران داخل دائرة مغلقة من الفقر والعجز والخذلان.
هل جربت أن تستيقظ يومًا وتجد أن كل شيء من حولك صار رفاهية؟ أن يصبح الغاز المنزلي حلمًا، والخبز رفاهية، والماء الصالح للشرب ترفًا لا تقدر عليه؟ هل شعرت يومًا بأنك لا تستطيع حتى أن تشكو؟ لأن من حولك جميعهم غارقون في البؤس ذاته، والجميع اعتاد الصمت حتى لا ينهار؟
أما في الجهة الأخرى، هناك حيث الفنادق الفاخرة، والسفريات المدفوعة، والولائم العامرة، هناك حيث لا يعرفون معنى أن يمد المعلم يده لأحد، حيث لم يتذوقوا طعم الحاجة، ولم يعرفوا معنى أن ينام الأب جائعًا حتى يأكل أطفاله.
هل سيشعر هؤلاء يومًا بما يشعر به المعلم؟ هل سيدركون أنهم يحطمون أعظم مهنة وأشرف رسالة؟ أم أنهم سيبقون هناك، بعيدًا، متخمين حتى الثمالة، بينما ينهار من يحمل مشاعل النور لهذا الوطن؟
إنها ليست مجرد أزمة رواتب، إنها جريمة في حق الإنسان، في حق الكرامة، في حق الأجيال القادمة التي ستتعلم على يد معلمين أرهقهم الفقر، وأحرقهم العجز، حتى باتوا يبكون بصمت… بصمتٍ قاتل، لا يسمعه أحد.