الصبيحة .. جذوة لا تنطفئ

في كل حقبة من الزمن، تتجلى الصبيحة كأيقونة للفداء، وكأنها كُتبت عليها التضحية بمداد العزة والكرامة، لم تبرح هذه الأرض، بقراها وأهلها، تقدم الأكباد قرابين على مذبح الوطن، وكأنها السيف المسلول الذي لا يعرف غمدًا، أو كأنما هي جذوة لا تخبو نارها في معركة الخلود.  

  
منذ الأزل، والصبيحة تكتب تاريخها بالدم، تنثر أبناءها على الطرقات كأزهار برية لا تهاب العواصف، وتصنع من فلذات أكبادها جسورًا تمتد فوق بحار الحزن، ليمضي الوطن شامخًا، لا ينحني ولا يخضع. 

لم تكن الصبيحة يومًا إلا ذاك الحصن المنيع، الذي يستعصي على الانكسار، ويعصي على الخضوع، فلا تهدأ لها راية، ولا تذبل لها هامة، إذ هي في كل معترك رمحٌ صامد، وفي كل نازلة درعٌ حصين.  
 
إنها الصبيحة، المرأة التي لا تجف دموعها، ولكنها لا تنحني، والأم التي تودع أبناءها على صهوات المجد، ثم تمسح دموعها بكف الكبرياء ؛ هي ذاتها التي ترفع عينيها إلى السماء، تبارك قوافل الشهداء، ثم تعود إلى بيتها، تجهز كفنًا جديدًا، وكأنها خنساء الأزمان، التي لم تزل تنجب الأبطال، وترسلهم إلى الميادين، بلا وجل أو تردد.  

في معادلة التضحية، الصبيحة هي الثابت الأكيد، وهي الجذع الذي تستند عليه الأرواح حين يشتد المخاض ؛ لم تكن يومًا إلا الملاذ، الذي تأوي إليه النفوس حين تضيق بها الدروب، وكأنها النخلة المريمية، التي تهزها الرياح، فلا تسقط منها إلا رُطبًا جنياً، ولا تنحني إلا لتزداد شموخًا.  

سلامٌ على تلك الأرض، التي لا تزال تُنجب الأحرار، وتُسقيهم من نبع الفداء، حتى صاروا رمزًا للبسالة وعنوانًا للكرامة،  سلامٌ على الصبيحة، وهي تودع أبناءها إلى المجد، وتُشيعهم إلى الخلود، فلا تبكيهم إلا كما تبكي الجبال شموخها، وكما تبكي السيوف لمعانها.  

ما زالت أرض الصبيحة، منذ فجر التاريخ وحتى اليوم، تقف على تخوم الفداء، لا تهادن، ولا تساوم، ولا تعترف بغير الشرف طريقًا، ولا بغير التضحية سبيلًا.

 إنها الأرض التي لا تزال تبصق أكبادها على الطرقات، لتضيء للأجيال القادمة دروب الحرية، وتكتب بدماء أبنائها سفرًا خالدًا من البطولات.  

فلتبقَ الصبيحة كما عهدناها، راية لا تُنكّس، وسارية لا تهوي، وسيفًا لا يُغمد، حتى تظل الأوطان محفوظة بعهد الفداء، مصونة بدماء الأحرار، مكللة بالغار.. ما دام في الصبيحة قلبٌ ينبض، ودمٌ يجري، وعينٌ تسهر على مجد لا يزول.