ما سِيل إلا من جبل !!

تمر المحافظات الجنوبية بمرحلة اقتصادية صعبة لم يشهدها الجنوب من قبل، حيث تدهورت الأوضاع المعيشية، وانهارت العملة المحلية، وارتفعت الأسعار بشكل جنوني، مما جعل الحياة اليومية أشبه بصراع للبقاء ، ورغم هذا التدهور الحاد لم يشهد الجنوب حراكاً شعبياً واسعاً كما قد يُتوقع في مثل هذه الظروف، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول أسباب هذا الصمت الشعبي ، فهل هو خوف من القمع؟ أم انعدام الثقة في جدوى أي احتجاجات؟ أم أن هناك عوامل أخرى أكثر تعقيداً جعلت الشارع الجنوبي في حالة ركود غير مسبوق؟

عبر التاريخ كانت المناطق الريفية والجبلية في الجنوب، مثل ردفان والضالع ويافع والصبيحة، هي المحرك الأساسي لأي تحرك ثوري أو تغيير سياسي نظراً لما تمتلكه هذه المناطق من ثروة بشرية مقاتلة وشجاعة قادرة على إحداث تغيرات ملموسة في أي وقت، إذ أن معظم التحولات الكبرى التي شهدها الجنوب خرجت من هذه الجبال التي لطالما شكلت منبعاً للحركات التحررية ،  لكن التحالف العربي أدرك هذه الحقيقة مبكراً، وعرف من أين تؤكل الكتف، فعمل على استقطاب الشباب من هذه المناطق عبر تشكيل ألوية عسكرية تدفع لهم رواتب مجزية بالعملة الصعبة، وهو ما أدى إلى تحييد القوة الأكثر قدرة على التغيير.

الانهيار الاقتصادي لم يكن متساوي التأثير على مختلف الفئات الاجتماعية والجغرافية ففي حين أن سكان المدن، مثل عدن ولحج وحضرموت، هم الأكثر تضرراً من هذا الوضع، إلا أنهم ليس القوة القادرة على إحداث تغيير فعلي، إذ تعتمد حياتهم على الوظائف المدنية والتجارة والخدمات الحكومية، وهي قطاعات تعرضت للشلل التام، مما دفع كثيرين إلى البحث عن الهجرة أو العيش في حالة انتظار قاتلة، على الجانب الآخر كان يمكن أن تشكل المناطق الجبلية والريفية مركز ثقل لأي حراك ثوري، لكن التحالف العربي استطاع أن يربط مصير شباب هذه المناطق بمؤسساته العسكرية، بحيث أصبح لكل بيت في هذه المناطق فرد أو أكثر يتلقى راتبه من هذه الألوية، مما جعل أي انتفاضة ضد الوضع القائم تعني المساس بمصدر الرزق الوحيد للكثير من العائلات.

من ناحية أخرى فإن تفكك القوى الجنوبية والانقسامات بين الفصائل المختلفة جعلت من الصعب وجود قيادة موحدة للحراك الشعبي ،كما أن انتشار الألوية العسكرية الممولة خارجياً شكل حاجزاً آخر أمام أي تحرك جماهيري، حيث باتت هذه القوات مستعدة لقمع أي احتجاجات قد تهدد مصالح الجهات الداعمة لها. إضافة إلى ذلك فإن ثقافة التكيف مع الصعاب التي يتميز بها الجنوبيون جعلت الكثيرين يرون أن الاحتجاجات لن تغير شيئاً، في ظل غياب رؤية واضحة للمستقبل.

ورغم أن هذه العوامل نجحت في كبح أي انتفاضة حتى الآن، إلا أن استمرار التدهور الاقتصادي وعدم وجود أي حلول واقعية قد يؤدي إلى انفجار لا يمكن السيطرة عليه ، لطالما أن الأزمة مستمرة، فإن حالة الركود الشعبي الحالية لن تدوم إلى الأبد، وقد تأتي لحظة تنفجر فيها الأوضاع بشكل غير متوقع، خاصة إذا ما تراجعت أو انقطعت الرواتب التي يعتمد عليها كثير من الأسر.

إن الجنوب الذي لطالما كان مهد الثورات لا يمكن أن يبقى في هذه الحالة من السكون إلى الأبد ، فالرهان على تحييد المناطق الجبلية والريفية عبر الاستقطاب العسكري قد يكون ناجحاً مؤقتاً، لكنه ليس حلاً دائماً.

وعندما يصل الوضع إلى مرحلة لا يمكن احتمالها، فإن الجبال التي كانت مصدر التحولات الكبرى في الماضي قد تتحول مجدداً إلى قوة لا يمكن إيقافها، لأن ما سِيل إلا من جبل.