قصة قدرية وعلبة الدانو وجارنا الصيني
بقلم: أبو زين ناصر الوليدي
أتذكر في النصف الأول من الثمانيات أنها كانت في قريتنا الصغيرة ( منصب- أورمة- مودية- أبين) كلبة اسمها قدرية، لا أزال أتذكر شكلها، حمراء عضباء هزيلة عجوزة، إلا إنها كانت كثيرة الإنتاج، فلا يمر زمن حتى تضع أكثر من خمسة جروان، وبحكم أننا كنا أطفالا فإنا كنا نتسابق على تملك هذه الجروان، وكل واحد منا يضع علامة في أحدهم ويطلق عليه اسما ليصبح ملكه ويقوم برعايته إلى جانب أمه الرؤوم قدرية الكلبة ابنة الكلب.
ومما أتذكره أن جارنا الذي نلقبه (امصيني) كان معه جرو أحمر سماه ( صاروخ) وكان يعتني به أشد العناية حتى أنه اشترى له علبة دانو ب (٢٥ شلن) واشترى مصاصة فكان يطعمه لبن الدانو صباحا و مساءا حتى سمن صاروخ وسبق إخوانه في الحجم والحركة، لا أزال أتذكر جارنا امصيني وهو يخبط لبن الدانو لصاروخ في ديمة جدي معرج، وصاروخ يتنعم بأجود أنواع الحليب الدانمركي، عندما كان الدانو دانو تعلوه طبقة صفراء وكأنها الزبدة.
وكنا حينها ربما نشتري كرتون دانو ( ٦ علب) بمائة وخمسين شلن ونشرب منه قبل النوم وفي الصباح ونطعم منه صغار الغنم كدعم إضافي إلى لبن الأمهات.
كان ذلك كله في زمن كلبتنا الراحلة قدرية أحد أهم رموز الكلاب في ذلك الزمن الجميل، ولو كانت تمنح شهادات تقديرية لأكثر الأمهات إنتاجا لحازت قدرية قصب السبق في كل عام.
تذكرت الراحلة قدرية وجروانها وصديقي امصيني وجروه صاروخ مطلع شهر رمضان حينما ذهبت إلى السوبر لأشتري علبة دانو من أجل رمضان بعد أن حيل بيننا وبين الدانو الا في رمضان، ولكن كانت المفاجأة أن سعر علبة الدانو وصل إلى (٤٧) ألف ريال يمني وهي تقارب راتب الجندي ونصف راتب المدرس صاحب الشهادة والخدمة، مما أعجز أكثر الناس عن الوصول إلى علبة الدانو المعدلة إذ أنها لم تعد تلك الدانو المكثفة زمن قدرية.
لقد ماتت قدرية وهي قريرة العين سعيدة بحال أبنائها ومايتناولونه من أجود أنواع الحليب الدانمركي، ولم تكن تدري قدرية أن امصيني الذي لم يكن يبخل على ولدها صاروخ بعلب الدانو أنه شب وكبر وتزوج ورزق أولادا ولكنه لم يستطع أن يشتري علبة دانو لأحد من أولاده ليس هو وحده بل كل الأطفال الذين كانوا يحتفون باليوم الذي تضع فيه قدرية جروانها.
هل أصبح حلم الواحد منا اليوم أن يحصل أولاده على ماكان يحصل عليه جرو من جروان قدرية، بعد أن انحدرت أحوالنا وتغيرت معادلات الحياة وتولى شؤوننا من لم يراع فينا حق الله من الرؤوساء والوزراء والمسؤولين؟.
قبل مدة لقيت صديقي امصيني وذكرته قدرية وصاروخ وعلبة الدانو فتنهد تنهيدة كادت أن تقطع نياط قلبه ثم قال: والله إني عجزت أن أشتري لولدي ما كنت أشتريه لولد قدرية.
ليس وحدك أخي امصيني من تعاني وتكابد للبقاء على قيد الحياة معززا مكرما بل هناك أكثر من ثلاثين مليون يمني يعيشون تحت كل خطوط الفقر والمعاناة في زمن لم يستفد منه غير نخبة بسيطة من ولاة الأمور، حتى أصبح الرجل يحلم أن يكون حظه من الحياة مستوى الراحلة قدرية وأولادها الذين عاشوا الزمن الجميل.
..................
إعادة نشر مع تصرف يسير