ريشة بن بريك تمزج بين حضارتين

المكلا ( أبين الآن) مرفت الربيعي
اختار الفنان التشكيلي اليمني الدكتور خالد بن بريك تجسيد قصة لقاء حضارتين على ضفتين متناقضتين ومتباعدتين بريشته الإبداعية. ورسم بن بريك لوحاتٍ فنية أشبه بجسرٍ نابضٍ يربط بين إرثين ثقافيين ونافذةٍ تطل على تلاقحٍ عميق بين حضارتين.
تناغمتْ تلك الحضارتين وامتزجتا، بين الطابع اليمني العريق ممثلًا بالعمارة الطينية الحضرمية، وسحر (الزليج المغربي) في تجربةٍ تفيض بالتأمل والدهشة. وبحسب التشكيلي بن بريك، فإن الإلهام ليس حكرًا على بيئةٍ واحدة، فلكل مكانٍ طاقته الفنية.
ويقول لـ«المشاهد»: إن مدينة سيئون ألهمته تفاصيل العمارة الطينية الحضرمية، بينما منحته المغرب جمال (الزخارف والألوان). معتبرًا أن الفن في نهاية المطاف ينبع من الداخل، لكنه يتغذى ويتأثر من الخارج.
ويبدو أن هذا الامتزاج هو الذي ميّز تجربة بن بريك، ورحلته الفنية التي بدأت من مدينة سيئون (حاضرة وادي حضرموت). حيث كانت المدينة النابضة بعبق التاريخ والحاضنة للعمارة الطينية، مصدر إلهامه الأول؛ ليصبح فنانًا وأستاذًا جامعيًا بجامعة حضرموت. إضافة إلى كونه رسام كاريكاتير ومدربًا أسهم في تخريج جيل من الفنانين الشباب عبر تدريس التربية الفنية.
أعماله ومعارضه
أقام التشكيلي بن بريك عديد معارض في اليمن، أبرزها معرض (اليمن برؤية تشكيلية) عام 2018 نظمته منظمة (الإيسيسكو). حيث وصف هذا المعرض بأنه جسّد الهوية اليمنية بعمق (العمارة، التراث الشعبي، والأزياء التقليدية).
وهدف المعرض إلى خلق حوار بصري يعبر عن الغنى الحضاري والثقافي الذي تمتلكه اليمن، رغم كل التحديات التي تواجهها. ويتمسك بن بريك في معارضه بالأصالة، ولا يغفل تضمين روح العصر بانتمائه للواقعية.
ويرى أن لوحاته تمزج بين التفاصيل الزخرفية الدقيقة والأسلوب السريالي المحاكي للتطور الحديث. داعيًا إلى دعم المواهب والقدرات لتعزيز الإرث الحضاري الذي بدأ يتآكل بسبب هدم المباني التاريخية والتوسع العمراني الحديث.
كما شارك بـ20 لوحة فنية في المعرض الذي نظمته جمعية رباط الفتح للتنمية المستدامة تحت شعار (المغرب في قارته). فيما نظم معرضه (الثقافة المغربية بعيون فنان يمني) في إقليم الحسيمة عام 2022.
وتحصل على المركز الثالث في مسابقة الإيسيسكو للفن التشكيلي عام 2021. ونال الدكتوراه الفخرية من أكاديمية علاء الدين الدولية بالمغرب، تقديرًا لما حظيت به تجربته الفنية في الأوساط الأكاديمية والفنية.
دراسة علمية للجمال
سافر بن بريك إلى المغرب لمواصلة دراسته العليا بجامعة محمد الخامس، بأطروحته العلمية: (مقارنة الجمالية الطينية بين جنوب المغرب وحضرموت). وتأتي هذه الخطوة لتكشف شغف بن بريك برصد نقاط الالتقاء بين التراثين اليمني والمغربي في البناء المعتمد على الطوب الطيني.
وحللت الأطروحة الرموز والدلالات والشفرات المضمّنة في لوحات تشكيلية أبدعها فنانون عايشوا أهوال الحر /ب وتأثروا بها، وعكسوها في أعمال فنية. وحملت تلك الأعمال التشكيلية أبعادًا جمالية، عبرت عن المعاناة أو حتى لحظات الانتصار، بحسب بن بريك.
وأنجز بريك 40 لوحةً جسدت القيّم الجمالية للعمارة الطينية، مستخدمًا الريشة كأداة لإبراز الهوية البصرية المشتركة بين حضرموت وجنوب المغرب. وتضمنت اللوحات رسالةً فنيةً للارتباط بين التراث والهوية، وضرورة المحافظة عليهما في وجه الحداثة المتسارعة.
ويسعى بن بريك إلى تعزيز مفهوم “التلاقح الثقافي عبر الفن”، بما يعزز قيم التعايش، ويقول: “إن الإبداع يتجاوز الحدود”. مشيرًا إلى أن كل حضارة تمنحنا أفقًا جديدًا، وكل لوحة هي وسيلة للتواصل بين الشعوب.
الحرف العربي
الحرف العربي أحد أبرز عناصر الهوية الثقافية في عالم الفن التشكيلي، وفقًا لبن بريك. ويواصل: في تجربتي، حاولت دمج الحرف العربي مع مفردات الفنون التشكيلية الحديثة من خلال اللوحات التي تتسم بالتفاصيل الدقيقة والانسيابية.
ويتابع: التفاعل بين الخط العربي والزخرفة (الزليجية المغربية) في بعض أعمالي يعكس التناغم بين الأصالة والحداثة. ويظهر كيف يمكن للفن أن يكون وسيلة لنقل الرسائل الثقافية والجمالية عبر العصور.
وعكست لوحات بن بريك الزخم والتنوع الثقافي بين الحضارتين اليمنية والمغربية. وذلك عبر اقتباس المنسوجات المغربية التقليدية كالزربية والحلي، ودمج الخط العربي في تصميمات (الزليج المغربي) أو فن الفسيفساء الإسلامي.
ويلتقي (الزليج المغربي) مع الطراز المعماري الطيني الحضرمي في البناء المعتمد على الطوب الطيني، مع اختلافات تعكس الخصوصية الثقافية. كما ظهرت بعض لوحات بن بريك مستوحاة من القفطان المغربي؛ مما يعكس رمزية الأصالة والجمال في اللباس التقليدي المغربي.
ريشة مشرقية بألوان مغربية
في أواخر ديسمبر 2024، وفي بهو رواق (باب الرَواح) بالرباط، افتتح بن بريك معرضه (ريشة من المشرق بألوان المغرب). وجسدت لوحات المعرض الخمسين، رسالة حبٍ فنية بين (حضرموت وجنوب المغرب) لتضيف ريشته المشرقية الصاعدة لـ(باب الرَواح) ذاكرةً جديدة.
وحظيت تجربة بن بريك بالقبول واستخدام أعماله في أغلفة الكتب والدراسات الأكاديمية، باعتبارها إضافة نوعية أثرت المشهد الفني في المغرب. حيث أشادت الدوائر الفنية والأكاديمية بقدرة بن بريك على دمج التراث بالحداثة، وبمهارة عالية.
توثيق الـ.ـمأ..ساة الإنسانية
يوضح بن بريك أن الفن وسيلة للتوثيق والتعبير عن معاناة الإنسان، وأن الحرب والأزمات الإنسانية باليمن شكلت محطات محورية للوحاته. حيث جسدت لوحاته مشاهد مأساوية، عبر استخدام ألوان دافئة للإيحاء بالألم، أو رمزية التفاصيل للواقع المظلم للإنسان في زمن الحروب.
في المقابل، جسدت لوحة (ماضٍ تليد.. وعهدٌ جديد) التحولات الكبرى في المغرب خلال ربع قرن من حكم الملك محمد السادس. وذلك بأسلوب سريالي، نقل الزخم الحضري للعاصمة الرباط، وصوّر التحولات في البنية التحتية والمشاريع الطموحة التي غيرت وجه المغرب الحديث.
بينما حملت لوحته (هزة) بُعدًا إنسانيًا لروح التضامن المغربي خلال زلزال الحوز، واستلهم في (مخاض الأرض) مأساة الطفل ريّان. معبرًا عن مشاعر مختلطة من الحزن والأمل، من خلال ألوان نابضة بالحياة.
ويختتم بن بريك حديثه، بالإشارة إلى أن الفن جسر يتعدى حدود الجغرافيا والمعارض الفنية. ويشكل نقطة تلاقٍ بين الثقافات، ويوفر فرصة فريدة للقاء الجمهور الدولي والتفاعل مع فنانين من مختلف الثقافات. كما يعزز الوعي الثقافي ويتيح المجال للحوار بين الشعوب.
نقلاً عن الشاهد نت