الصيام والتقوى رحلة للتحرر وضبط النفس

في زحام الحياة، وفي غمرة الاعتياد على الروتين اليومي، تأتي فريضة الصيام كضوء يوقظ الإنسان من سباته، فتدعوه إلى مراجعة ذاته، وإعادة ترتيب علاقته مع نفسه ومع الحياة من حوله. إن الصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب؛ بل هو مدرسة عملية تُعلم الإنسان كيف يتحرر من سطوة العادة، ويملك زمام نفسه، ويرتقي بروحه نحو مراتب التقوى.

إن الإنسان بطبيعته مخلوق اعتاد التكرار، واستسلم لروتين يومي يُعيده مرارا إلى ذات الدائرة المغلقة من العادات والرغبات. فيأتي الصيام ليكسر هذا النمط، ويدرب الصائم على التخلي عن المألوف، فيكتشف لأول مرة أن بإمكانه العيش دون ترف الإسراف، وأنه قادر على الامتناع عن بعض الشهوات التي ظنها ضرورية لحياته. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183).

والتقوى هنا ليست مجرد حالة شعورية؛ بل هي ثمرة تربية ذاتية عميقة، تجعل الإنسان قادرا على قيادة نفسه، لا أن يكون منقادا خلف شهواته ورغباته. وقد قال الإمام الغزالي رحمه الله: "الصوم ربع الإيمان، وهو جُنة من النار، وإنه لسر بين العبد وربه لا يطَّلع عليه غيره، وهو قمع للشهوات وكسر للنفس وطريق للعبودية".

إن القوة الحقيقية ليست في امتلاك الأشياء؛ بل في الاستغناء عنها، وهذه إحدى أعظم الدروس التي يغرسها الصيام في قلوب المؤمنين. حين يصوم الإنسان عن الطعام والشراب رغم توفرهما، فإنه يدرك أن التحكم في النفس هو أقوى مظاهر القوة. ولذلك قال ﷺ: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».

فالصيام اختبار للنفس، يكشف حقيقة أخلاق الإنسان، ويمتحن صبره وسلوكه. هل نحن لطفاء فقط عندما نكون مرتاحين؟ هل نصبر لأن الظروف سهلة، أم لأننا تعلمنا الصبر حقا؟ كيف نتعامل مع الجوع والعطش؟ هل نزداد حكمة أم نتحول إلى أشخاص متوترين وسريعي الغضب؟ الصيام يضعنا أمام هذه الأسئلة، ليجعلنا نواجه حقيقتنا، ويدفعنا للارتقاء بأخلاقنا، فليس الصيام مجرد اختبار للجسد؛ بل هو اختبار للقلب والنية والخلق.

وقد سئل الحسن البصري رحمه الله: "لماذا كان الصيام مدرسة التقوى؟" فقال: "لأنه يذكِّر العبد بجوع الآخرة، فيدعوه إلى الصبر، ويعلمه أن الإمساك عن الحرام أولى من الإمساك عن الحلال".

إن من أعظم دروس الصيام أنه يعيد تعريف علاقتنا بالماديات، فيجعلنا نفهم أن السعادة ليست في كثرة الطعام؛ بل في بساطته، وليست في كثرة الامتلاك؛ بل في الاكتفاء. الصيام يقول لنا: لا تُغرقوا أرواحكم في الاستهلاك، فالسعادة ليست في الامتلاك؛ بل في القدرة على التحكم والاعتدال.

وهنا يظهر لنا أعظم انتصار للإنسان على نفسه: أن يمتلك القدرة على كبح رغبته حين يكون قادرا على تلبيتها. فالصيام يمنح الصائم دروسا عميقة في تهذيب النفس، منها:

- التحرر من العادات السيئة والتقاليد المتحكمة.

- صوغ الإرادة ليكون الإنسان قائدا لنفسه لا تابعا لشهواته.

- تنقية القلب من الحسد والكراهية والبغضاء.

- التحكم في اللسان والسمع والبصر، وضبط الغضب والأنانية.

- اكتساب صفات الرحمة والهدوء والتسامح، والإحساس بالآخرين.

- إدراك أن العطاء ليس تفضلا؛ بل واجب على كل إنسان تجاه مجتمعه.

قال ابن القيم رحمه الله: "الصوم يُطفئ نار الشهوة، ويُضيء نور الحكمة، ويُرقق القلب، ويُذهب فضول الطعام والشراب، ويُعيد للنفس صفاءها، ويجعلها أقرب إلى الله".

إن رمضان ليس مجرد شهر عابر؛ بل هو فرصة إلهية منحها الله لعباده ليعيدوا تقييم ذواتهم، وينظروا إلى أنفسهم بعين جديدة. إنه دورة تربوية مكثفة، تعيد تشكيل الفكر، وتقوّم السلوك، وتحرر النفس من عاداتها السيئة، لترتقي إلى أسمى مراتب التقوى والإحسان.

فليكن صيامنا أكثر من مجرد امتناع عن الطعام، وليكن طريقا لتحقيق التوازن، وضبط النفس، واكتساب القوة الحقيقية: قوة التحكم في الذات، والإمساك بزمام النفس، والتحرر من العادات التي تعيقنا عن الوصول إلى رضوان الله.

قال الحسن البصري: "المؤمن في الدنيا كالغريب، لا يأنس بها، وإنما يعد أيامه فيها للقاء ربه، والصيام زاد رحلته".

فلنستعد لهذا الزاد، ولنغتنم فرصة رمضان، فهو ليس مجرد شهر صيام؛ بل هو بوابة التغيير لمن أراد أن يمتلك زمام نفسه، ويسير في طريق التقوى والارتقاء.

وفق الله الجميع للصيام والقيام، وللتغيير الإيجابي، وامتلاك زمام الانفس. 

وأدام السلامة لهم.