بدعة ترك صلاة التراويح بعد العشاء في العشر الأواخر من رمضان: رؤية فقهية وتأصيل شرعي
إن شهر رمضان المبارك هو موسم الطاعات، فيه تتنزل الرحمات وتُغفر الذنوب، وتتنوع فيه العبادات بين الصيام والقيام والتلاوة والذكر. ومن أعظم العبادات المشروعة فيه صلاة القيام، التي عُرفت في جماعة بعد العشاء بصلاة التراويح، وهي من السنن العظيمة التي أجمعت الأمة على مشروعيتها وأدائها جماعةً في المساجد، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم وسنّة الخلفاء الراشدين من بعده.
زقيام الليل هو مصطلح يشمل كل صلاة تُؤدى بعد العشاء إلى الفجر، سواء كانت في رمضان أو غيره، بينما يختص اسم "التراويح" بصلاة الليل التي تؤدى في رمضان، وقد سُمّيت بذلك لأن السلف كانوا يستريحون بين كل أربع ركعات، كما جاء عن الإمام مالك وغيره.
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قيام الليل جماعةً ببعض أصحابه في المسجد، كما في حديث عائشة رضي الله عنها: "أن النبي ﷺ خرج من جوف الليل فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم، فخرج في الليلة الثانية فصلى، فصلى بصلاته ناس، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله ﷺ فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، ثم قال: «إني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها»" (متفق عليه).
وهذا يدلّ على مشروعية قيام رمضان جماعة، وأن النبي ﷺ ترك الاجتماع فيه خشية الفرض، فلما زال هذا العذر في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جمع الناس على إمام واحد، وقال كلمته المشهورة:
"نِعْمَتِ البدعةُ هذه! والتي ينامون عنها أفضلُ منها" (رواه البخاري).
وكان مراده أن قيام الليل في الثلث الأخير أفضل، لكنه لم يمنع التراويح بعد العشاء؛ بل نظّمها وأحياها، فكان إجماع الصحابة على ذلك، واستمر عليه المسلمون عبر العصور.
لقد اتفق أهل العلم على أن قيام الليل في رمضان يمتد من بعد العشاء إلى الفجر، كما قال النبي ﷺ: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه" (متفق عليه).
ولم يُنقل عن أحد من الصحابة أنه ترك القيام بعد العشاء وأجّله إلى الثلث الأخير فقط؛ بل كان المشروع عندهم أن يُقام الليل طواله، فمن نشط قام بعد العشاء، ومن أراد الزيادة قام في آخر الليل.
ومما يؤكد هذا ما ورد عن أهل المدينة في عهد السلف، حيث كانوا يصلون التراويح بعد العشاء، ثم يعودون إلى بيوتهم، ثم يقومون قبل الفجر. قال الإمام مالك رحمه الله: "كان الناس في المدينة يقومون في رمضان أوّله بعد العشاء، ثم يقومون في آخره في بيوتهم" ("المدونة الكبرى" ج1 ص 207).
إن قيام الليل في الثلث الأخير له فضل عظيم، لأن الله تعالى ينزل فيه نزولًا يليق بجلاله، فيقول:
"هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟" (متفق عليه).
وقد كان النبي ﷺ يُطيل القيام في هذا الوقت، كما في حديث حذيفة رضي الله عنه: "صليت مع النبي ﷺ ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا، فإذا مر بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوّذ" (رواه مسلم).
لكن ذلك لا يعني ترك التراويح بعد العشاء؛ إذ لم يُنقل عن النبي ﷺ ولا عن الصحابة أنهم تركوا التراويح للعشر الأواخر فقط، بل كانوا يجمعون بين القيامين، لمن استطاع.
يستدل بعض الناس بحديث عائشة رضي الله عنها: "ما كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَزِيدُ في رَمَضَانَ ولَا في غيرِهِ علَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً" (متفق عليه).
ويفهمون منه أن التراويح لا تُصلّى بعد العشاء، لكن هذا فهم خاطئ، لأن الحديث يدل على أن صلاة النبي ﷺ كانت إحدى عشرة ركعة، لكنه لم يمنع الزيادة. وقد ثبت أن النبي ﷺ قال:
"صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ، صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى" (متفق عليه).
بل ورد أن عمر رضي الله عنه جمع الناس على عشرين ركعة، كما رواه مالك في "الموطأ" (رقم 250) والبيهقي في "السنن الكبرى" (رقم 4289)، وكان بعض التابعين يصلون ستًا وثلاثين ركعة.
ومن الخطورة أن يشابه بعض المسلمين موقف الشيعة الذين لا يصلون التراويح بحجة أنها بدعة، مع أن الأمة أجمعت على مشروعيتها.
ولا شك أن لترك التراويح بعد العشاء عواقب تتمثل في:
-؛مخالفة سنة النبي ﷺ والصحابة، الذين أقروا صلاة التراويح بعد العشاء في المسجد.
- إرباك الناس، خاصة كبار السن وضعفاء الهمة، حيث يكون القيام في آخر الليل شاقًا عليهم.
- هجر المساجد في العشر الأواخر بعد العشاء، مما يضعف روح الجماعة والعبادة.
- تحويل القيام إلى عادة اجتماعية خاصة بالعشر الأواخر، بدل كونه عبادة مستمرة طوال الشهر.
لقد كان الأصل في قيام الليل أنه فردي، لكن يجوز الاجتماع عليه، كما فعل النبي ﷺ أحيانًا. وقد كان الشيخ عبد الله الخليفي رحمه الله أول من جمع المصلين على التهجد في الحرم المكي في نهاية منتصف القرن العشرين، حتى صار سنة حسنة تُقام في المساجد الكبرى، مما زاد من إقبال الناس على القيام.
إذن سنة المسلمين منذ عهد النبي ﷺ والخلفاء الراشدين كانت على أداء التراويح بعد العشاء طوال رمضان، بما في ذلك العشر الأواخر. ولم يُنقل عن النبي ﷺ ولا عن الصحابة أنهم تركوا صلاة التراويح في المسجد بعد العشاء، واستبدلوها بقيام الليل فقط.
فلنحافظ على سنة السلف الصالح، ونجمع بين التراويح والقيام لمن استطاع، ومن لم يستطع فليُصلّ ما تيسر له، فالقيام كله خير ورحمة، والله الموفق.
ودمتم سالمين!