وهل تُنَال الحرية والكرامة بدون ضريبة ؟

بقلم: د. سعيد سالم الحرباجي 

لو قلبتم صفحات التأريخ البشري منذ الأزل وحتى اللحظة ...لقال لكم بلسان الحال أنَّه لم يقيد في دفاترته- ولو حالة واحدة- لعشاڨ الحرية أنهم نالوا حريتهم دونما ضريبة ، ولا تضحيات ، ولا دماء ، ولا أشلاء !!

فلما التعجب ، بل ولما اللوم لشعب غزة الذي عشق الحرية ، وقرر أن ينالها مهما كلفه ذلك من تضحيات ؟؟!!!

هكذا كانت الحرية غالية ، وعزيزة ، لا ينالها إلا أصحاب الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، والشجاعة النادرة .

من هنا قرر رجال غزة أن يكسروا أغلال العبودية ، وأن يحطَّموا أسوار الظلم ، وأن يمزَّغوا قيود القهر ، وأن يهدَّموا جدار الاستبداد  وأن يتنفَّسوا عبق الحرية .

وإزاء قرار كهذا غاية في الصعوبة ...
انقسم الناس حيالهم إلى فريقين اثنين ..
الأحرار يرون ذلك القرار صائباً ، وأنَّ من حقهم اتخاذ ما يرونه مناسباَّ لنيل حريتهم ، بل وقرروا مناصرتهم .

وأمَّا العبيد فيرون أنَّ المقاومة قد تهوَّرت ، واتخذت القرار الخاطئ ، وضحَّت بالشعب ، بل وذهبوا إلى أبعد من ذلك حيث ناصبوا المقاومة العِداء السافر !!!

هذان الموقفان يتكرران في تاريخ الصراع البشري منذ القدم ..
الصورة نفس الصورة ، والموقف نفس الموقف ، والأقوال نفس الاقوال ، والاعذار هي الاعذار .

الجبناء ، وضعغاء النفوس  يتوارون خلف الاعذار القبيحة  ، ويختلقون مبررات وهمية لمواقفهم المخزية ، ويبذلون جهدهم للتقليل من حق الأحرار ، ويتربصون بهم الدوائر ، بل وربما تحالفوا مع الأعداء لهزيمة عشاق الحرية .

ولكن ....ورُغم  نكد القريب ، وأذى الصديق ، وكيد العزيز !!!
تمضي قافلة الأحرار  في طريقها ، غير مبالين ، بتلك الدعايات ، والأراجيف ،  عازمين على نيل حريتهم ، مصممين على مواجهة الطغيان مهما كانت قوته ، ومهما بلغت غطرسته .

وقد سجل التأريخ  نماذج من تلك المواقف المشرفة لعشاق الحرية ، وكيف انتزعوا حريتهم انتزاعاً....رُغم تفوق عدوهم عدداً وعُدة ، ورّغم زعيق ونعيق المنافقين ، والمرجفين !!!

عندما طغى (جالوت ) على بني إسرائيل وأذلهم..
عزم الملك ( طالوت ) على محاربته  ، وتحرير بني إسرائيل من ظلمه...فجهز ثمانين ألف مقاتلا وسار بهم لقتاله.
وفي الطريق تعرضوا لامتحان من قبل ( طالوت) فعاد ( ستة وسبعون ألف مقاتلاً) ولم يبق معه إلا ( أربعة آلاف من المقاتلين ) 

فلمَّا رأؤوا جيش ( جالوت ) وكان عدده ( مائة ألف من المقاتلين ) خارت قواهم ، وذهبوا يبحثون عن أعذار لجبنهم ..فقالوا كما سجل ذلك القرآن الكريم ( لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده).
ذا طالوت ...يا عمي .
وهذا ما قاله حسني مبارك ( ذي أمريكا يا بيه)

 فهربوا من المواجهة ولم يبق مع ( طالوت) سوى ( ثلاث مائة وبضعة عشر مقاتلاً ) .

ولك أن تتأمل المشهد الرهيب ، ولك أن تتخيل 
الموقف الصعب(ثلاث مائة) سيواجهون ( مائة ألف) وهم بكامل عدتهم وعتادهم .

ومع ذلك قرروا المواجهة ... فبدأت المعركة بتلك الصورة ونزل ( جالوت ) للمبارزة ، فخرج له غلام صغير ( داؤد عليه السلام) فرماه بحجر فخر صريعاً ، وانقض عليه واحتز رأسه بسرعة البرق ليلقيه بين يدي ( طالوت ) وأنهى المعركة في جولتها الأولى .
قال سبحانه وتعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾

هكذا كان شعار تلك القلة المؤمنة التي ربطت مصيرها بقوة الله ...واستمدت عونها منه سبحانه ...فكانت هذه النتيجة ، وكان ذلك النصر الساحق ، ونجا الله  المستضعفين من قهر جالوت .

في القرن الثالث عشر الميلادي اجتاح التتار العام العربي ، والإسلامي وقتلوا خليفة المسلمين في بغداد ( المستعصم بالله ) وأخضعوا جزيرة العرب وبلاد الشام كلها ...
ثم بعث ( هولاكو) رسله إلى المماليك في مصر يهددهم  ، ويتوعدهم ( إما الاستسلام وإما القتال ) فلما وصلوا إلى (سيف الدين قطز ) ما 
كان منه إلا أن قتلهم ، وعزم على مواجهة التتار ، فجهز جيشه للحرب .


إذا حاولنا إسقاط صورة تلك الفترة الزمنية ، وواقعنا اليوم ....
لكانت صورة التتار كصورة أمريكا اليوم التي تتحكم في العالم ، وتعبث به .
ولكان وضع المماليك يشبه إلى حد ما (حال غزة ) .

ففي ذلك الزمن حاول الجبناء ، والخونة ، والمنافقون تخذيل الناس ، وبث سموم اليأس ، والإحباط ، ونشر إشاعات التهويل من شأن التتار ، وصوَّروا للعامة أنَّ مواجتهم ( ضرب من الانتحار ) .

وفي المقابل اتخذ الأحرار قرار المواجهة ،  وعزموا على قتال  التتار غير مبالين بأراجيف العبيد .

وفي يوم أغر ..دارت رحى الحرب وبالتحديد في ( 25/ رمضان/ 658هــ / 3 /9 / 1260م)
فلم  تغب شمس ذلك اليوم إلا وقد أنهى المماليك كل أحلام التتار ، وهزموهم شر هزيمة ، وانتهى جيش المجرم ( هولاكو ) وعادت الروح تدب مرة أخرى في جسد العالم العربي
والإسلامي ، وتخلص المماليك من شر التتار ، وبسطوا نفوذهم لحوالي قرنين من الزمان.

اليوم يتكرر المشهد ، وتُعاد الصورة ،وتتجددالأحداث ...
العبيد يقفون في صف قوى الاستكبار العالمي ، بقيادة أمريكا ، ويختلقون الأعذار لتبرير مواقفهم المخزية ، بل ويناصرون ( النتن ياهو) 
ويحملون المقاومة ما يحصل من مآسي في غزة  ,ويحاولون جهدهم التقليل من شأنها .

وفي المقابل اتخذ الأحرار قرار المواجهة ، وعزموا على مقاومة  ( قوى الاستكبار العالمي)
متوكلين على الله وحده ...

وها هم صامدون لعام ونصف العام ، ولم تنل لهم قناة .
وكل المؤشرات تدل على هزيمة المشروع الصليبي ، وانتصار المقاومة في غزة .

أي نعم ..هناك دماء تسفك ، وأرواح تزهق ، وأعراض تنتهك ، وحرمات تّداس ...
ولكنها ضريبة الحرية .