غزة.. شوكة الميزان وكاشفة الوجوه
الله -عز وجل- جعل الابتلاء ميزانا للرجال، ومِحَكّا للثابتين، ومِرآةً تكشف الوجوه الزائفة!
وما أعجب أثر المحن في الناس! إنها تُسقط الأقنعة، وتكشف الغثَّ من السمين، وتفرز أهل الحق من أدعيائه. وإن غزة اليوم وما أدراك ما غزة! ما هي إلا "شوكة الميزان" التي وضعها الله في زمن المِحن والخذلان، ليرى من ينصر دينه، ومن يخذله.
لقد نظرت الأمة اليوم إلى غزة، فإذا بها ميزان الرجال، وساحة الامتحان، وكاشفة للأقنعة؛ كم من لحى وعِمائم، وهامات وقامات، كنا نظنها من أهل الصدق والربانية، فإذا بموقفها من غزة يُسقط الهيبة، ويزرع الشك والريبة، ويكشف الغطاء.
فمنهم من سكت، وسكوته خذلان، ومنهم من برّر، وتبريره كذب وبهتان، ومنهم من برّر لطغاة الأرض، فباع دينه بدنيا غيره. قال الله عز وجل:
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [آل عمران: 77].
فلا مبرّر لمتخاذل، إلا خوفٌ أو تعصّب أو طمع في دنيا زائلة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم» [رواه الطبراني في المعجم الأوسط، وحسّنه الهيثمي في المجمع].
وقال عليه الصلاة والسلام: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه» [متفق عليه].
وما تخوّفنا على غزة؛ فإن من كان الله ناصره فمَن ذا الذي يخذله؟!
هم اليوم مظلومون، والمظلوم ناصره الله كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتق دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب» [رواه البخاري].
وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40].
لا تخف على غزةَ الأحرارِ من عدوٍ
*ما دام فيهم منْ إذا نادى الإلهُ لبّوا
لكن الخوفَ كل الخوف على أنفسنا، أن نكون ممن خذل إخوانه يوم احتاجوه، أن نكون ممن قست قلوبهم أو غلبتهم شهواتهم، فصاروا "يخافون الملوك أكثر مما يخافون مالك الملوك".
قال تعالى:
{فَتَقَطَّعَ بِهِمُ الْأَسْبَابُ(١٦٦) وَقَالَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا(١٦٧)﴾ [البقرة: 166-167].
ويا ويح قومٍ سكتت ضمائرهم، وتبلّدت مشاعرهم، وفقدوا أدنى درجات الإنسانية، فهم اليوم يرون الموت والذبح والتجويع والتنكيل في غزة، ولا تتحرّك فيهم شعرة، وكأنما خُتم على قلوبهم وأبصارهم.
قال الشاعر الحكيم:
ومن لم يعانقه شوق الحياةِ
تبخَّرَ في جوّها واندثرْ
يا أهل المروءة والدين، يا من بقي في قلوبكم ذرة إنسانية، هذا زمن الاصطفاف؛ لا حياد فيه، فإما أن نكون مع المظلومين، أو نُكتب في ديوان الظالمين أو المُفرّطين.
﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ [هود: 113].
وختاما؛ فإن فغزة ليست محنة؛ بل مِنحة، منحةٌ من الله ليمتحن بها القلوب، ويكشف بها الوجوه، ويجلي بها الصفوف، ويُظهر الصادق من الكاذب، والثابت من المتلّون.
اللهم ثبّت أهل غزة، وارفع عنهم البلاء، واجعلنا معهم بقلوبنا وأموالنا ودعائنا، ولا تجعلنا من الخاذلين، ولا من المنافقين، ولا من الجبناء القاعدين.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
ودمتم سالمين.