رجل الدولة الحقيقي

في هذا الزمن المضطرب، حيث ضاعت المقاييس واختلطت الحقائق، بات البعض يظن أن الطريق إلى السلطة لا يُعبَّد إلا بالدهاء والمراوغة، وأن النجاح في السياسة لا يتحقق؛ إلا لمن يجيد فنون التسلّق والانتهازية. وفي واقعنا اليمني، صار من الطبيعي أن يُنظر إلى رجل الدولة على أنه شخص متنفّذ، يعتاش على الولاءات والقرابات، لا على الكفاءة والنزاهة.

وهذا التصور لم يأتِ من فراغ؛ بل هو انعكاس لأزمة عميقة شوهت المعنى الحقيقي لرجل الدولة. فأصبحنا نرى الفاسد يُلمَّع بعبارات منمّقة كـ"خبير سياسي"، بينما الشريف يُقصى لأنه "ما يعرف اللعبة"، والوفيّ يُتهم بالضعف لأنه لا يساوم على القيم.

رجل الدولة ليس من يُتقن فن تهميش الآخرين؛ بل من يملك رؤية نافذة، تُبصر آفاق المستقبل وتحمل في قلبها همّ الوطن. هو من يتخذ قراراته بميزان العدل، لا بميزان المصالح. يعرف أنه مسؤول أمام الله قبل أن يكون مسؤولا أمام الناس، وأنه لم يأتِ للتشريف؛ بل للتكليف.

في بيئة اعتادت أن ترى الحكم حكرا على قبيلة أو عائلة أو "شلّة"، يأتي رجل الدولة الحقيقي ليكسر هذه الحلقة. لا يختبئ خلف العصبيات؛ بل يعمل لبناء مؤسسات قوية، يسودها العدل والمساءلة. يقرّب أهل الكفاءة؛ لا أهل المجاملة. يثق في الأمناء؛ لا في المتزلفين.

رجل الدولة لا يعيش في برج عاجي؛ لا يرى شعبه؛ إلا من خلف زجاجٍ مظلل؛ بل هو ذلك القائد الذي ينزل إلى الشارع، يسمع نبض الناس، ويمشي بينهم، يواسي الجريح، ويشعر بجوع الفقير، ويبكي مع الأم الثكلى. يقف حيث يقف الناس، ويحسّ كما يحسّون.

نعم، السياسة تحتاج إلى فطنة؛ لكنها ليست مكرا يُفكّك الأوطان؛ بل حكمة تبنيها. رجل الدولة لا يساوم على الحق، ولا يفرّط في القيم؛ بل يتعامل مع الواقع بوعيٍ عميق، يوازن فيه بين الثوابت والمتغيرات، دون أن يضيع منه الطريق.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها».
رجل الدولة يعلم أن كل قرار يتخذه له تبعات، وأنه سيُسأل عنه يوما ما. فلا يغريه الكرسي، ولا تستهويه المناصب. بل يخشى الله في كل أمرٍ يعالجه.

قد يعلو المتسلقون يوما، ويصفّق لهم المنتفعون؛ لكن التاريخ لا يخلدهم. يسقطون من ذاكرته كما يسقط الغبار. أما من حكموا بالعدل، وبنوا الدول بقيمهم، فهم من تبقى سيرتهم نورا تهتدي به الأجيال.

لقد آن الأوان أن نكفّ عن تزيين صورة الفاسدين وادّعاء أنهم "أذكياء"، وأن نُعيد رسم صورة رجل الدولة كما ينبغي: نزيها، حكيما، شجاعا، قريبا من الناس، حريصا على الوطن، مخلصا في خدمته. الذكاء دون أخلاق ليس حنكة، بل سقوط، والمكر الذي يهين الوطن خيانة لا بطولة.

اليمن بحاجة إلى رجال دولة حقيقيين... من يؤمنون أن الدولة لا تُبنى بالمؤامرات؛ بل بالعدل. من يجعلون من السلطة أداة لخدمة الناس؛ لا وسيلة لجمع الغنائم.
فلنرفع صوتنا ونقول:
رجل الدولة... ليس هو الكيّاد؛ بل هو القائد الأمين، ابن الشعب، وخادم الأمة، وسند الضعفاء.
والله تعالى أعلم!
ودمتم ودام الوطن سالما!