عشر ذي الحجة موسم ميلاد جديد
إذا أقبلت عشر ذي الحجة؛ فإنك لا تعيش أياما عادية؛ بل تعيش فرصة نادرة؛ بل يمكن القول إنها لحظة ولادة جديدة. لا ولادة جسدية؛ ولكن ولادة روحية، عميقة، تُعيد ترتيب قلبك، تُوقظ عقلك، وتضبط سلوكك.
فهي أيام أقسم الله بها، فقال: ﴿وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ [الفجر: 1–2]، وهي الأيام التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها "أفضل أيام الدنيا"، وأن العمل فيها أحب إلى الله من أي وقت آخر. أيامٌ عظيمة؛ ولكن في زحمة الحياة، كثير منا يتعامل معها كأي وقت آخر، نركض خلف المشتريات، نتابع العروض، نغرق في المحتوى السطحي على الشاشات، ونغفل عن أنفسنا.
هذه الأيام لم تأتِ عبثا؛ بل جاءت لتهمس في أذنك: توقّف..! خذ نفسا عميقا..! وابدأ من جديد.
جاءت لتذكّرك بأنك إنسان، لا آلة. عبد لله، لا عبدا لهوى أو عادة.
فهل تسمع النداء؟ وهل أنت مستعد لتغيير حقيقي يبدأ من الداخل؟ فهي ليست أياما عابرة؛ بل موعد مع نفسك!
غالبا ما نربط عشر ذي الحجة بالأضاحي، وننسى أن التضحية الحقيقية تبدأ بذبح الغرور، وكسر الكسل، والتخلي عن العادات التي تجرُّنا إلى الوراء.
هل تذكّرت آخر مرة سامحت فيها أحدا لله؟ هل حاولت أن تترك عادة تؤذيك في السر؟
هذه الأيام فرصتك لتجربة ذلك.
ليس من الصعب أن تذبح شاة؛ لكن الأصعب أن تذبح هوى النفس، وتضحي بوقتك أو مالك أو راحتك من أجل أن ترضي ربك. ولذلك قال الإمام ابن القيم: "ليس الشأن في ذبح الذبيحة، وإنما الشأن في ذبح الهوى".
فما الذي يمنعك أن تبدأ الآن؟ خطوة صغيرة واحدة قد تغيّر مجرى حياتك؛ فأضحيتك الحقيقية إنما هي تغيير داخلي.
قد يتساءل أحدنا: كيف أستفيد فعليا من هذه الأيام؟ والجواب ليس نظريا، بل عمليا جدا. ابدأ من أبسط الأمور:
- أطفئ هاتفك بعد العشاء، وخذ وقتا للحديث مع الله، بهدوء، بعيدا عن كل شيء.
- استيقظ قبل الفجر بدقائق، ولو ليوم واحد فقط، وجرب لذّة قيام الليل.
- سامح من ظلمك، لا لأجله؛ بل لأجلك.
- تصدّق سرا، ولو بمبلغ بسيط، دون تصوير أو مشاركة.
- اجلس مع نفسك، بصدق، واكتب: ما العادة التي أريد أن أتركها؟ ما الخُلق الذي أريد اكتسابه؟ ما الغلطة التي أكررها كل عام؟
جرب أن تجعل من هذه العشر مشروعا صغيرا: "مشروع إصلاح الذات"، ليس مجرد لحظة عاطفية؛ بل خطة شخصية فيها صيام، وقيام، وصدقة، وصلة رحم، ومراجعة للنفس...
وإليك نموذجا بسيطا لخطة يمكن أن تغيّر حياتك، تتمثل في التالي:
- جرب أن تصوم، خاصة يوم عرفة، الذي يغفر الله فيه ذنوب عامين.
- قم الليل، لو ركعتين فقط، في جوف الليل، وقت لا يراك فيه أحد.
- وتصدق وليس بالضرورة مبلغ كبير، ولكن بقلبٍ حاضر، ونيّة صادقة.
- صل رحمك؛ فمكالمة، رسالة، زيارة لمن انقطعت عنهم.
- راجع العلاقات والمال؛ أي نظف قلبك، ومصادر رزقك.
- واعقد جلسة صراحة مع النفس؛ اكتب فيها نقاط ضعفك، وأولوياتك للتغيير.
واترك عادة سيئة واحدة فقط، ولو كانت بسيطة، مثل التأخير عن الصلاة.
- استغفر بكثرة، وليكن لسانك رطبا به في كل لحظة فراغ.
- واقرأ القرآن بتركيز، ولو صفحة واحدة مع تدبر.
- والدعاء الصادق بأن يجعل الله هذه العشر نقطة تحوّل في حياتك.
وأخيرا في هذا العالم المليء بالتوتر، والخداع، والصخب، نحتاج جميعا إلى لحظة صدق، نعود فيها لأنفسنا، لنفكر: من نحن؟ وإلى أين نسير؟ وعشر ذي الحجة هي تلك اللحظة.
فلا تجعلها تمر كما مرّت الأعوام السابقة. لا تكن ذلك الشخص الذي يكرر حياته كل عام، دون تغيير حقيقي.
ابنِ بداخلك ذلك الإنسان القوي، النقي، الثابت على الطريق، الذي يعرف من أين جاء، ولماذا وُجد، وإلى أين هو ذاهب.
فربما كانت هذه العشر، هي فرصتك الأخيرة لتولد من جديد.
وفق الله الجميع!
ودمتم سالمين!