حين تصبح التكنولوجيا عبئًا لا ميزة  

نعيش في الغربة منذ سنوات طويلة، نراقب العالم من حولنا يتغير بسرعة مذهلة تفوق الخيال. تغييرات لا يمكن لعاقل أن يُحيط بها أو أن يستوعب تفاصيلها، حتى على مستوى الحياة اليومية داخل الأسرة. فكل يوم تقتحم حياتنا مفردات ومصطلحات جديدة، من الأجهزة المنزلية الذكية إلى تقنيات الاتصال والمراقبة، إلى سيل الأخبار والمعلومات المتدفقة عبر وسائل الإعلام المتنوعة.

هذا التغيير السريع، وإن بدا مثيرًا ومبهرًا، إلا أنه في باطنه يُثير القلق والخوف. أجد نفسي في كثير من الأحيان عاجزًا عن مجاراة أبنائي في كثير من الأمور، أقف أمامهم حائرًا، كطفل يتلقى الشرح عن “المستقبل” الذي أصبح بالنسبة لهم واقعًا معاشًا. أسمعهم يتحدثون عن أدوات تُدار بالتحكم عن بُعد، وثلاجات تُرسل رسائل إلى الهاتف تُخبرك أن الحليب قد نفد! عالم مذهل بحق، لكنه يتركنا -نحن الكبار- خلفه، كأننا آلات قديمة لا تجيد لغة الجيل الجديد.

الغربة هنا لا تقتصر على المكان فقط، بل أصبحت غربة عن العصر، عن الإيقاع، عن التقنية، عن تفاصيل الحياة. والأصعب من ذلك، أننا لا نملك ترف الوقت لتقبّل هذا التغيير تدريجيًا، بل نجده يداهمنا دفعة واحدة، دون استعداد أو تمهيد.

وهنا تبرز إشكالية كبرى: هل نقبل هذا التغيير بكل ما فيه؟ أم نرفضه ونعيش على هامش الواقع؟ وإن رفضناه، فهل بإمكاننا النجاة من عزلته القاسية؟

في لحظات التأمل، أجد نفسي أحيانًا أحسد من يعيشون حياة بسيطة في أوطانهم، فالتغيير عندهم يأتي على مهل، خطوة بخطوة، أما نحن فنعيش في قلب الإعصار. نعاني من ضغط نفسي واقتصادي كبير، ونتورط أحيانًا في سباق استهلاكي لا ينتهي. فالكماليات هنا لم تعد رفاهية، بل تحولت إلى متطلبات يُقنعنا السوق بأننا بحاجة ماسّة إليها، حتى لو كان الثمن ديونًا تثقل كاهلنا لعقود.

إن الرأسمالية الحديثة، كما نعيشها في بلدان الاغتراب، ليست مجرد نظام اقتصادي. إنها منظومة ضخمة تُحسن التجمّل بشعارات التقدّم والراحة والرفاهية، لكنها في العمق تلتهم الإنسان، وتسحقه تحت عجلات التحديث المتسارع. هي وحش بمخالب فولاذية، يحاصرنا في كل مكان، ويجعلنا ندفع من أعمارنا، وصحتنا، واستقرارنا، ثمنًا لما يسمّى “مواكبة العصر”.