كائن يئن فهل من سامع له؟!

في زحمة الدمار والدخان، في المدن التي باتت رمادا، وفي الحقول التي تحوّلت إلى أرض ملوثة بالموت، هناك كائن صغير يختنق بصمت؛ لا صوت له ولا شكوى، لكنه يحترق معنا!

قد لا يخطر على بال أحد، وسط القصف والانفجارات، أن يسأل: "ماذا حدث له؟" لكنه هناك، حاضر، يدفع ثمن الحروب كما ندفعه نحن، وربما أكثر؟!

حين تنفجر قنبلة أو تُطلق صواريخ، لا يتوقف الدمار عند الحجارة أو الأرواح البشرية. هناك دخان أسود كثيف يحمل في طياته مكونات قاتلة: أكاسيد النيتروجين، ثاني أكسيد الكبريت، معادن ثقيلة كالزئبق والرصاص، وجزيئات دقيقة لا تُرى بالعين؛ لكنها تدخل إلى جهاز النحل التنفسي وتخنقه ببطء.

النحل لا يملك أنفا كأنوفنا، لكنه يتنفس من خلال ثقوب صغيرة في جسده، ويستقبل من الهواء كل ما نرسل إليه من سموم. هذه الجسيمات الدقيقة تتسلل إلى جسده وتخرب نظامه الحيوي، وتضعف مناعته، وتجعله عاجزا عن مقاومة أمراض قاتلة مثل "الفاروا" و"النوزيما".

هل رأيت نحلة تدور في الهواء وكأنها تبحث عن طريقها؟ حين يتسمم النحل بغازات الأعصاب المنبعثة من الأسلحة، يفقد قدرته على التوجيه. يخرج من خليته للبحث عن الزهور، فلا يعرف كيف يعود. ويظل يدور ويدور حتى يسقط على الأرض، غريبا، ضائعا، لا أحد ينتبه إلى موته.

هذه ليست مبالغة؛ بل حقيقة موثقة في دراسات علمية. السموم الناتجة عن الحرب تُحدث اضطرابا في جهازه العصبي، وتشوّه قدرته على الطيران، وتفسد لغة "الرقص" التي يخبر بها أقرانه عن مواقع الأزهار.

الحرب لا تقتل النحل بالسيف فقط؛ بل تسممه من الزهور التي يحبها. فحين يسقط الرماد السام على النباتات، يتلوث الرحيق وحبوب اللقاح، ويعود بها النحل إلى الخلية حاملا معه موتا بطيئا للحضنة والملكة.

كم من خلية نحلية ماتت في صمت! لأننا لم نرَ غير آثار الحرب على الإسفلتوالمباني، ولم نُلقِ نظرة على الأزهار التي لم تعد تُزرع، ولا على العسل الذي لم يعد يُنتج، ولا على النحل الذي انقرض من أرضه.

النحل ليس حشرة عادية. إنه حارس التوازن البيئي، وصانع الحياة، وملقّح الأشجار، وضامن بقاء المحاصيل. موته يعني أن الزهر لا يُلقح، وأن الثمار لا تنضج، وأن الجوع يقترب بخطى ثقيلة.

قال أينشتاين ذات مرة: "إذا اختفى النحل من على وجه الأرض، فلن يبقى للإنسان أكثر من أربع سنوات".

هذه ليست نبوءة؛ بل علم. فالحياة مرتبطة بحياة هذا الكائن الصغير أكثر مما نتصور.

الحرب لا تُدمّر الجسور فقط؛ بل تقطع جسور الحياة الخفية التي تربط الكائنات ببعضها. وإن كان للبشر مستشفيات وملاذات وهلالٌ أحمر، فإن للنحل لا ملجأ له من السموم، ولا دواء له إن تسمم بالرائحة.

فلنلتفت إلى هذا الكائن النبيل.

فلنحمِه كما نحمي الأطفال،

فموته ليس فقط جريمة بيئية؛ بل فقدٌ لرفيق صامت في رحلة الحياة.

حفظ الله بيئتنا ونحلنا!

ودمتم سالمين!