شجرة الغريب: عملاق يمني يُصارع الإهمال والنسيان

في قلب محافظة تعز جنوب اليمن، تقف شجرةٌ استثنائية تتحدى الزمن والطبيعة، تُعرف باسم "شجرة الغريب". وهي ليست مجرد شجرة ضخمة نادرة! بل شاهد حي على التفاعل بين الإنسان والبيئة، وعلى الإرث النباتي المهمل رغم قيمته الفريدة. هذه الشجرة تنتمي إلى عائلة الباوباب الأسطورية (Adansonia digitata)، والتي طالما جذبت العلماء والرحّالة وأساطير الشعوب. غير أن شجرة الغريب، وعلى خلاف قريناتها الإفريقية، ما تزال مجهولة علميا ومنسية رسميا؛ رغم أنها تضاهي — بل تتفوق — على العديد منها في الحجم والعمر والتاريخ.

تنتمي شجرة الغريب إلى فصيلة الباوباب أو "شجرة الحياة"، وهي الأشجار المعروفة بعمرها الممتد وآلياتها الفريدة في تخزين المياه والتكيّف مع الجفاف. إلا أن ما يميز شجرة الغريب هو الجمع بين الخصائص النباتية النادرة والهوية الثقافية اليمنية الضاربة في القدم. فهي تُعد من أندر الأشجار عالميا من حيث الشكل والعمر والضخامة، ويبلغ محيط جذعها حوالي 32.50 مترا، ما يضعها ضمن الأضخم على وجه الأرض من نوعها.

وقد وصفها العالم الجغرافي اليمني الكبير الهمداني (ت 334هـ / 945م) في كتابه "صفة جزيرة العرب" باسم "الكلهُمة"، قائلًا إنها "تُظِلُّ مائة رجل"، وهو ما يؤكد أن الشجرة كانت موجودة ومعروفة قبل أكثر من ألف عام. كما يسميها الأعراب بـ"الكهلَبَة".

وتشير بعض الفرضيات إلى أنها وصلت إلى اليمن مع الغزو الحبشي عام 525م، وهو تاريخ مفترض يتماشى مع نمط الانتشار التاريخي للباوباب من شرق إفريقيا نحو الجزيرة العربية. وما يعزز مكانتها التاريخية هو أن توثيقها يعود إلى ما قبل 1055 سنة، وهو ما يجعلها من أقدم الأشجار المدونة نصا في التراث العربي.

ورغم عدم إخضاعها حتى اليوم لأي دراسة باستخدام الكربون المشع؛ فإن التقديرات المعقولة تشير إلى أن عمرها يزيد عن 1500 عام، وربما يتجاوز ذلك. وهذا يجعلها متقدمة زمنيا على العديد من أشهر أشجار الباوباب التي خضعت للدراسة في إفريقيا وناميبيا وجنوب إفريقيا.

تُعد شجرة الغريب حالة استثنائية على ثلاثة مستويات:

- الضخامة؛ فمحيط جذعها البالغ 32.50 مترا يجعلها واحدة من أضخم أشجار الباوباب عالميا؛ رغم أن هذه البيانات لم تُوثّق رسميا في أي قاعدة بيانات نباتية دولية.

- التاريخ المدوّن، فعلى خلاف معظم أشجار الباوباب التي تعتمد في تأريخها على أدوات الكربون المشع فقط؛ تمتاز شجرة الغريب بأنها موثقة في مؤلفات الجغرافيين العرب منذ القرن الرابع الهجري، وهو ما يمنحها قيمة معرفية مزدوجة، نباتية وثقافية.

- الاستقرار المكاني؛ لم تُنقل الشجرة أو تُزرع يدويا في عصر حديث؛ بل نمت طبيعيا في موضعها الأصلي، ما يجعلها من أقدم الأشجار المستقرة جغرافيا دون تدخل بشري.

ورغم هذه السمات الفريدة، لم تحظَ بأي دراسة علمية رسمية أو تصنيف أكاديمي دقيق، الأمر الذي يُعد خسارة معرفية وبيئية فادحة.

بينما تتحول أشجار الباوباب في إفريقيا وأستراليا إلى:

- معالم وطنية محمية

- مراكز لأبحاث التغير المناخي

- رموز ثقافية ومعمارية

تبقى شجرة الغريب:

- مجهولة رسميا

- غير مصنفة ضمن التراث الطبيعي أو المحميات

- موقعا شعبيا لتناول القات وتدخين الشيشة دون حماية.

شجرة الغريب؛ رغم غياب التوثيق العلمي، تضاهي في مواصفاتها العديد من أضخم وأقدم أشجار الباوباب المدروسة، مثل:

- شجرة "غْلينكو" في جنوب إفريقيا: محيطها 47 مترًا، عمرها بالكربون المشع 1835 سنة.

- شجرة "جروتبوم" في ناميبيا: عمرها 1275 سنة.

- شجرة "صن لاند": تجاوز عمرها 1000 سنة قبل انهيارها في 2017.

وإذا ما أُخضعت شجرة الغريب للدراسة العلمية الدقيقة؛ فربما تتبوأ مكانة مرموقة بين هذه العينات؛ إن لم تتفوق عليها عمرا في ظل ما تشير إليه الوثائق العربية.

تشير الدراسات الحديثة (2024) إلى أن منشأ شجرة الباوباب يعود إلى مدغشقر قبل 21 مليون سنة. وانتقلت إلى إفريقيا القارية وأستراليا قبل نحو 12 مليون سنة بفعل تغيرات جيولوجية وبيئية.

ومن المفارقات أن:

- أضخم أشجار الباوباب لا توجد في مدغشقر؛ بل في إفريقيا الجنوبية.

- أكبر شجرة في مدغشقر لا يتجاوز محيطها 27.30 مترا، أي أصغر من شجرة الغريب.

مما يعزز فكرة أن شجرة الغريب تمثل حالة تطور بيئي استثنائية في بيئة غير تقليدية لنمو الباوباب.

منذ عام 2005، وثّق العلماء انهيار 9 من أصل 13 شجرة باوباب تعد من الأقدم عالميا، منها:

- شجرة "صن لاند" (2017).

- شجرة "بانكي" في زيمبابوي (2011).

- شجرة "تشابمانز" في بوتسوانا (2016).

وقد بدأت شجرة الغريب أيضا في الانهيار الجزئي بتاريخ 21 أبريل 2025، ما يُعد إنذارا مبكرا بضرورة التحرك السريع لإنقاذها.

عالم النبات السويسري أدريان باتروت، أرجع هذه الانهيارات إلى:

- تغير المناخ.

- الجفاف المتزايد.

- ارتفاع درجات الحرارة.

إلا أن دراسة منشورة في مجلة Nature Plants (2018) شككت في هذه الفرضية، وأكدت أن:

- الباوباب يُعد من أكثر الأشجار مقاومة للظروف المناخية القاسية.

- الانهيارات قد تعود إلى عوامل أخرى غير معروفة حتى الآن.

وهذا يجعل من شجرة الغريب مرشحا مثاليا للدراسة لاكتشاف الأسباب المحتملة لظاهرة الانهيار الغامض.

من المثير للانتباه أن اسم "كلهُمة" أو "كهلَبَة" قد يكون تحويرا لغويا يمنيا من كلمة "كنجلوا" في لغات البانتو بجنوب إفريقيا، والتي تعني "الشجرة التي تزأر".

وهذه الفرضية تعززها الأساطير اليمنية المتداولة محليا حول الشجرة، ومنها:

- أنها تزأر في الليل.

- أن ثمرتها يحيط بها مخلوق مخيف يُعرف بـ"أبو كلبة".

-:أنها مسكن لروح غامضة تُسمى في بعض الروايات بـ"جرجوف"، وربما تكون استعارة من أساطير الزولو أو الشونا.

شجرة الغريب ليست مجرد نبات ضخم؛ بل:

- وثيقة حية للتاريخ البيئي والثقافي اليمني.

- كنز نباتي عالمي غير مكتشف علميا.

- دليل حي على تشابك الهويات الطبيعية مع الحضارات البشرية.

ومن هذا المنطلق، ربما يستحب أن يُوصىٰ بما يلي:

- إجراء دراسات عاجلة باستخدام الكربون المشع لتحديد عمرها بدقة.

- تحويل الموقع إلى محمية طبيعية ومزار بحثي وسياحي.

- إدراجها ضمن قوائم التراث البيئي العالمي.

- إطلاق حملات توعوية محلية للحفاظ عليها.

- فتح المجال أمام التعاون الدولي لدراسة ظاهرة انهيار الباوباب عالميا، وشجرة الغريب نموذجٌ مثالي لذلك.

في عالمٍ يندفع نحو المستقبل، تبقى بعض الكائنات شاهدة على الماضي، تنبض بالحياة رغم الإهمال، وتدعو إلى التأمل والتقدير. شجرة الغريب في تعز ليست فقط شجرة؛ بل رواية بيئية وثقافية تنتظر أن تُروى علميا، قبل أن تُطوى بغير رجعة.

نسأل الله سلامة بيئتنا وتراثنا!

وأدام الله سلامتكم!