الذكاء الاصطناعي.. هل مازال الإبداع بشريا ؟
حفزني تنبيه مؤسسة عدن الغد بإيقاف التعامل مع الكتاب الذين يعتمدون على الذكاء الاصطناعي في كتاباتهم لكتابة هذا الموضوع، والذي فيه استدعت ذاكرتي جزئية في موضوع نشرته مجلة العربي الكويتية في النصف الثاني من التسعينات بعنوان ( الكمبيوتر وكيل بل توكيل).
ولكن قبل أن أشير أو أضمن هذه الجزئية، علي أن أشير إلى أن الذكاء الاصطناعي في عشرينيات القرن الحادي والعشرين قد تجاوز ما كان يخطط له في تسعينيات القرن العشرين بكثير، ومنها الإبداع. بل ولم يكن يخيل لأكثر المتابعين وربما المتخصصين في هذا الحقل أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه الآن.
نعم الإبداع. بكل مايعنيه هذا المفهوم من عملية الخلق والقدرة على توليد أفكار جديدة، تتسم بالأصالة، والمنفعة، وتكون ذات قيمة.
لقد صار الذكاء الاصطناعي يبدع في كتابة النصوص والموسيقا وإنشاء صور، والفيديو وغيرها مما كان يمثل خصيصة يتفوق بها العقل البشري عن الآلة إلى وقت قريب.
الآن صار يستعان به في كتابة النصوص الأدبية والمقالات، والبحوث العلمية وغيرها.
في التسعينات كانت (وايلد فاير) كما جاء في موضوع مجلة العربي الكويتية هي (وكيلة) حاسوبية حسناء. طورتها إحدى الشركات الأمريكية المتخصصة في هذا المجال. وكان يمكنها أن تقوم ببعض المهام لرجال الأعمال مثل: تحويل المكالمات التليفونية الخاصة بالشخص على تليفون السيارة، تلخيص واستعراض رسائل البريد الإلكتروني، عمل ملخصات عما نشر في وسائل الإعلام، بل واختيار الأفلام والموسيقا المناسبة لمالكها.
ولكنها لم تكن لتستطيع أن تبدع. فجميع ماتقدم عمل آلي، يختلف بالكلية عن العمل الإبداعي التي يتسم بالخلق والابتكار.
بل أن وايلد تقف مندهشة مستغربة من طلب مالكها أن تكتب له قصة قصيرة، بل وتظهر عجزها عن ذلك.
وحتى نضع القارئ في الصورة الكاملة ننقل له الحوار التالي:
(الحوار الأول : يجلس رجل الأعمال في سيارته أمام حاسوب يظهر على شاشته الوجه الباسم لـ "وايلد فاير".
-وايلد فاير .
صوت أنثوي ناعم : هآنذا .
-أرجو أن تحولي جميع المكالمات التليفونية الخاصة بي على تليفون السيارة.
حسنا.
-والآن ما هي رسائل البريد الإلكتروني التي تلقيتها منذ الأمس.
هناك 23 رسالة.
-أرجو أن تلخصي وتستعرضي لي أهم ما جاء بها بخصوص الموضوع (س).
حسنا ها هو.
-هل يمكن أن تذكري لي ملخصا عما نشر بخصوص هذا الموضوع في وسائط الإعلام المختلفة ؟
ها هي..
والآن أرجو إرسال تقييمكم لهذا الموضوع لوكيل السيد (ص).
هل ترغب في مشاهدة فيلم عند عودتك للمنزل ؟
-بالطبع... فلتنتقي لي أحد الأفلام التي أفضلها .
تم تجهيز الفيلم ... هل ترغب في الاستماع لبعض الموسيقى أثناء عودتك إلى المنزل ؟ .
-عظيم... أنت تعرفين أيها أفضله.
أما الحوار التالي فدار بين إحدى نسخ "وايلد فاير" التي يقتنيها أحد كتاب القصة القصيرة.
يجلس الكاتب أمام حاسوبه ليدور بينه وبين نسخته الخاصة من "وايلد فاير" الحوار التالي :
وايلد فاير .
هآنذا.
أرجو منك اتمام كتابة هذه القصة لي .
صوت ينم عن الدهشة، لم أفهم جيدا ماذا تعني بهذه العبارة ...!... أرجو إعادتها مرة أخرى.
-أرجوك كتابة هذه القصة من أجلي.
باستغراب : ما الذي يمكن أن أفعله من أجلك بالضبط...! ..؟
لا عليك.
أوكي OK ).
لقد ذهبت الحسناء وايلد فاير، حسناء التسعينات الحاسوبية، لياتي الشات جي بي تي ومافي حكمه، عملاق القرن الحادي والعشرين، ليحطم ماعجزت عنه تلك الحسناء، فيؤلف، ويبتكر، وينتج، بل ويمتلك ناصية الإبداع. ولربما اصبح من لا يجيد صياغة فقرة واحدة على بعضها، مع الذكاء الاصطناعي يكتب الصفحات، ويؤلف نصوصا أدبية، حتى وأن لم يستسغها كل من له حس أدبي، وعليم بدروب الأدب، وفنون الإبداع.
لا يفوتنا هنا أن نذكر بأن هناك معركة تكنولوجية في هذا المجال، فمثلما ابتكر الذكاء الاصطناعي ليبدع نيابة عن العقل البشري، ابتكرت أيضا برامج لكشف هذا الابداع، وتجريده من بشريته، وفضح آليته، مثل موقع ( زيرو جي بي تي) الذي يفترض به أن يكشف المواضيع التي أنتجها الذكاء الاصطناعي، إلا إنه في الحقيقة ومن خلال التجربة يبدو غير دقيقا، فكثير من المواضيع التي أنتجها العقل البشر قبل ظهور الذكاء الاصطناعي عند عرضها عليه ينسبها إلى الذكاء الاصطناعي.
وختاما فالمعركة مستمرة، بظهور مواقع الكترونية تعيد صياغة المواضيع المنتجة من الذكاء الاصطناعي حتى تبدو بشرية وتستعصي عن الكشف. ويستمر العقل البشري في التلقي منه، والاعتماد عليه، ولذا أقول: (مع كل خطوة يتقدم فيها الذكاء الصناعي، سيتفشى الغباء البشري). وقد ينتهي مع التطور المستمر للذكاء الاصطناعي، الخط الفاصل بين الخلق البشري الأصيل و الناتج الآلي المتقن، يختفي تماماً يوماً ما، ولربما سيفتقر الإبداع إلى اللمسة الإنسانية الفريدة التي لا يمكن للآلة محاكاتها.