عاشوراء ....انتصارأ لمبدأ للحرية .
بقلم د. سعيد سالم الحرباجي
سيظل يوم عاشوراء واحداً من تلك الأيام الخالدة في ذاكرة التاريخ البشري والذي جسَّد معاني التضحية ، والبذل ، والكفاح ، والوقوف في وجه الغطرسة والظلم .
وسيبقى معلماً من معالم انتصار الحق ، وهزيمة الطغيان ، ونيل الحرية .
هكذا شاءت الأقدار أنَّ أياماً بعينها كانت ولا تزال علامات فااارقة , ومعالم هداية حية مشرقة متوهجة في ذاكرة التاريخ ، وهي بمثابة نفحات ربانية , وإلهامات سنية بسر الحياة , وبقيمة الاستخلاف في الأرض الذي تُلَحُ حاجته إلى النماء , والتطور , والتجديد , والتنوير .
ولعل القيمة التاريخية لتلك الأيام تكمن فيما تجود به من عِبَرَ وعظات , ودروس ...هي بمثابة مستودع الخبرة البشرية , ومعينها الذي لا ينضب خيره , ولا تنعدم فوائده .
وشاء الله أن يكون عاشوراء واحداً من تلك الأيام الخالدة في ذاكرة التاريخ البشري ..
وذلك لارتباطه بأهم حدثين تاريخيين وقعا فيه , وكان الرابط بينهما البحث عن قيمة إنسانية سامية ( الحرية ) .
ونحن إذ نستقرأ هذين الحدثين _ في مثل هذه الظروف التي تمر بها أمتنا العربية الإسلامية _ نرمي إلى إعادة إنتاج الفعل الحضاري الإسلامي بطريقة تليق بخبرة خير أمة أخرجت للناس ،كما أنها محاولة تمتزج فيها المعطيات التاريخية الحية بحركة الواقع في الوعي البشري ليحدث التناغم المُرتجى بين الماضي والحاضر , والذي يهيأ الإرادة العازمة الجازمة , لتفعيل مقومات الماضي الحضاري ......لميلاد جيل التغيير التواق للحرية , والانعتاق من جبروت الطغيان .
تمثل الحدث الأول والأبرز والأهم في الصراع الطويل والشاق بين سيدنا موسى ( رافع لواء الحرية والداعي لهدم معبد الطغيان والإنفكاك من قيود الاستبداد ) مع الطاغية فرعون ( رمز الفساد, وعنوان الإستبداد, ورأس الظلم ).
ومن هنا تكمن القيمة الحقيقة ليوم عاشوراء.. فإلى جانب أنه يوم خالد من أيام الله , فهو كذلك اليوم الذي دُشِّن فيه المشروع الإصلاحي الرباني , لإقرار حقوق الإنسان , وحريته , وإعادته إلى موقعه على خارطة الاستخلاف والإمامة في الأرض , وانتزاع مقاليد السيادة من أيدي المستبدين والطغاة والظلمة .
هكذا تمثلت تلك المواجهة بين هذين المشروعين ( مشروع التحرر , ومشروع الاستبداد) وهكذا حمل كل من موسى وفرعون لواءه وحشد كل منهما طاقته وقوته للدفاع عن مشروعه ...
ودخلا في صراع شاق ومرير وطويل ...إلا أنَّ العاقبة للمتقين , وكانت الجولة الأخيرة انتصاراً للحرية على الاستبداد , وأفول دولة الظلم، وزوال الباطل ، واندحار الطغيان .
ولعل هذا هو أهم درس ينبغي أن نستلهمه في صراعنا مع( فراعنة اليوم) .
فتلك النهاية الوخيمة للطاغية ، المجرم ، السفاح ( فرعون ) سوف تتكرر مع طغاة اليوم ، وسفاحي العصر ، وسوف يلاقون نفس النهاية الوخيمة ( وإن تعددت صورها ، وأشكالها ).
ومشهد انتصار القلة المؤمنة _والمتمثلة في سيدنا موسى ومن معه _ ستتكرر مع رافعي لواء الحق ، والمدافعين عن الحرية على مدار الأزمان .
ذلك أنَّ قيمة الحق وقوته... تكمن في ذاته ، وفي القيم ، والمبادئ التي تحملها تلك الفئة التي تتبناها وإن قل عددها .
ففرعون اغتر بكثرته ، واغتر بعدته ، واغتر بطغيانه ، وركن إلى قوة وبأس جنوده ...
فقال كما أخبر ربنا سبحانه: { أنا ربكم الأعلى } .
{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ ، قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ } .
لذلك قرر الإجهاز على تلك القلة القليلة المستضعفة التي لا تملك إلا { سلاح الإيمان بالله } فاضطرت للهروب بدينها ..
لكن غطرسته دفعته للحاق بهم والخلاص منهم .....
فجهز جيشه وقاده بنفسه .
نظر المؤمنون إلى الخلف ، فإذا جيش فرعون على مقربة منهم ، ونظروا إلى الأمام فإذا البحر تجاههم ...فقالوا لسيدنا موسى : ( إنا لمدركون ) .
بمقاييس البشر ، وبمقاييس الحروب ....
المعركة محسومة ، والنهاية محتومة .
لكن هناك مقاييس يغفل عنها البشر ..
تلك المقاييس هي التي تحسم الصراع ، وتنهي المعارك بطرق لا تخطر على بالهم .
في تلك اللحظات العسيرة ، والكرب قد بلغ مداه بالنفوس ...
وقف موسى فقال بلسان الواثق من ربه كما أخبر سبحانه في كتابه فقال { كلا إنَّ معي ربي سيهدين } هكذا أطلقها في ثقة ، وفي يقين ، وفي اطمئنان .
( كلٌا ) جزم لا يتطرق إليه الشك البتة .
كيف سيهديه ، كيف سينجيه ، كيف سينقذه ...
كل ذلك يكله إلى المشيئة المطلقة لربه سبحانه.
فبينما ساد الوجوم ، وصمت الناس ، وخشعت الأصوات ..
نزل الوحي الإلهي يأمر سيدنا موسى بقوله :
{ فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ ۖ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍۢ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ} .
فانطلق القوم في أمن ، وأمان ،فعبروا لجاج البحر الذي صار يبساً !!!
نظر فرعون إلى القوم ...فلم توقفه المعجزة ، ولم يفطن إلى الفخ المنصوب له ...
بل ازداد حماقة ، وسخفاً ، وقرر اللحاق بهم !!!
فما إن أكمل المؤمنون الطريق ،ووصلوا إلى شاطئ الأمان ، وفرعون وجنوده في منتصف البحر ....
أمر ربنا سبحانه موسى أن يضرب البحر ثانية ، فعاد إلى حالته الطبيعية ...فالتهم الجيش وقائده .
فبينما فرعون تتقاذفه الأمواج ، ورأى الموت عياناً قال كما أخبر سبحانه:{ آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل ، وأنا من المسلمين } .
أستيقظ بعد فوات الأوان ، وانتبه بعد أن رأى الموت رأي العين ، وندم حيث لم ينفع الندم .
قضي الأمر وانتهى الكذب ، وظهرت الحقيقية ،وتبخرت كل الأمنيات الكاذبة وَكُشِفَ زيف الظلم ، وانتصر الحق، ومكٌَن الله للقلة المؤمنة
وعوٌَضهم عن صبرهم ، وجهدهم ، وجهادهم ،
بزوال الطغيان ، والتمكين في الأرض قال تعالى:
{ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ، ونجعلهم الوارثين} .
وهكذا انتهى الشوط الأخير من الصراع المرير.... باندحار الطغيان ، وانتصار الحق ، ونيل الحرية .
وهكذا ظل مشهد تمكين الفئة المؤمنة القليلة المستضعفة... يتكرر في كل مرحلة من مراحل الصراع بين الحق والباطل على مدار الأزمان ، وإلى أن يرث الله الارض ومن عليها .
وها نحن اليوم نرى بأم أعيينا حقيقة تلك المعجزة تتكرر في غزة .....
ففرعون اليوم ( النتن ياهو ) أراد أن يجهز على مقاومة غزة ، ويبيدها ، ويطرد أهلها ...
فاغتر بقوته ، وجبروته ، وطغيانه ، واستعرض عضلاته أمام مقاومة لا تملك إلا الإيمان بالله ، وبعدالة قضيتها ، وبما استطاعت أن تعد من قوة ذاتية ...
ولكن المشيئة الإلهية أرادت غير ما أراد المجرم السفاح......فها هو يدفع ثمن غطرسته ، وآمن اليوم أنَّه عاجز عن تحقيق ما أراد ....فهو يطلب النجدة من أسياده لانقاذه من محرقة غزة .
وأما الحدث الثاني الذي سُجل في يوم عاشوراء كذلك فهو حدث مقتل الإمام الحسين رضي الله عنه......ذلك الثائر المغوار الذي وقف في وجه الباطل , ورفض فكرة الاستبداد , واغتصاب السلطة من قبل يزيد بن معاوية ، وكتب بدمه الطاهر .....أنَّ الإسلام كان ولا يزال ثورة في وجه الظلم, والجبروت , والفساد والإفساد....
وعمَّد ذلك المبدأ بروحه الطاهر , وثبَّت تلك المعاني بحياته الكريمة ، ورسَّخ تلك المفاهيم بنفسه الزكية .ِ
لقد كانت ثورة الحسين ضد يزيد غضباً للدين, وقياماً بالحق , ورفضاً للملك العضوض ، وتثبيتأ لمبدأ الشورى , ورفضاً لفكرة الملك العضوض ( لطائفة , أو جماعة ، أو فئتة ) تحت أي مبرر ....ودعا _وبقوة _إلى رفض الإستبداد والقهر , والطغيان بكل أشكاله .
هذا ما ينبغي أن نستلهمه اليوم ونحن نحيي ذكرى يوم عاشوراء في ظل هذا المنعطف التأريخي الضخم الذي يشهد العالم .
الحرية لا توهب ...وإنما تُنتزع .
ورحم الله شوقي حينما قال :
وللحرية الحمراء باب * بكل يد مضرجة يدق .