تأملات في رحمة الإسلام بجميع المخلوقات

في زوايا طرقاتنا وأزقتنا، وعلى أبواب منازلنا، تنتشر سبائل الماء تروي المارة والعابرين، عمل حسن محبوب شرعا، يثلج الصدور ويغمر القلب بفيض من العطاء والبذل؛ لكن هل توقفنا يوما لننظر إلى جانب آخر من الرحمة؟ إلى المخلوقات الضعيفة التي تُسبح بحمد ربها بصمت، وتؤدي أدوارا دقيقة في منظومة الحياة؟ إلى الطيور التي ترشف الماء العذب من فروع الأشجار وألسنة الرحيق؟ إن رشفات الرحمة التي تُسكب لهم ليست بأقل قدرا من تلك التي نُعطيها لأنفسنا.

إن إناء الماء الموضوع على الشرفة أو السطح، أو حتى مُعلق على جدران المنزل الخارجية؛ ليس مجرد عمل بيئي بسيط، لا يكلف شيئًا، ولا يتطلب جهدًا كبيرًا؛ بل هو عبادة عظيمة من عبادات الرحمة والإحسان التي أمرنا بها ديننا الحنيف. فقد بيّن نبينا صلى الله عليه وسلم كيف أن الرحمة ليست محصورة في الإنسان؛ بل تمتد لتشمل كل ما خلق الله، حتى أصغر الكائنات، ففي الحديث الصحيح الشريف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فنزل فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى سقاه. فغفر الله له». كيف لا يكون هذا الفعل، الذي جمع بين الرحمة والإيثار، طريقا لمغفرة الله ورضاه؟ فكيف بمن يعتني بالطيور التي تسبح بحمده وتتحكم في دورة الحياة البيئية؛ تزيل الحشرات الضارة وتنقي البيئة من شوائبها؟

لم يكن الاهتمام برعاية الطيور والكائنات الصغيرة عشوائيا، ولا مجرد لمسة ترفيهية؛ بل هو سلوك متجذر في تاريخ الإسلام العظيم، تجلى في أفعال الصحابة والتابعين والسلف الصالح، الذين لم يتركوا طريقا إلا وتركوا فيها وصية بالرفق والرحمة. لقد وثق التاريخ كيف كان المسلمون هم السباقون في الحفاظ على التوازن البيئي، فكانوا ينثرون الحبوب في الجبال لتطعيم الطيور، حفاظا على النظام البيئي، وكرما للمخلوقات، ومنهجا يربط بين الإيمان والعمل، بين الدين والطبيعة، بين التوازن والمسؤولية.

إن الإسلام يحرم الفساد في الأرض، ويأمر بالإصلاح والبر، سواء كان إصلاحا في حياة البشر أو في الطبيعة التي خلقها الله جل جلاله، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 85].
فالاعتناء بالمخلوقات والبيئة هو امتدادٌ لواجب الإنسان نحو إصلاح الأرض التي وكلنا الله بها.

وقد وردت نصوص كثيرة تحث على الرحمة والعناية بجميع الكائنات، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم لا يُرحم»، فالرحمة بالحيوان وبالبيئة ليست مجرد شعور؛ بل هي صلة متينة بين العبد وربه، طريقٌ للبركة، وسكينة القلب، وأساس إصلاح الأرض.

ورغم بساطة الفعل، وسهولة وضع إناء ماء في كل بيت، إلا أن غياب هذه المبادرة الإنسانية البسيطة صار ملحوظا، وغالبا ما يُتجاهل أو يُستهان به. وهذا التقصير يضيع فضلا عظيما وثوابا جليلا، بالإضافة إلى الفوائد البيئية التي تعود بالنفع على كل كائن حي.

إن واجبنا يتجاوز إصلاح الإنسان نفسه، ليمتد إلى أن يكون للإنسان دور الرعاية والرحمة لكل المخلوقات؛ لأن في ذلك عناية بالنفس والروح، ورفعا لدرجات الإنسان في الدنيا والآخرة.

ما نحتاجه اليوم؛ ليس إلا قلوبا مؤمنة بالله واليوم الآخر، تنبض بالرحمة، وترجو مرضاة ربها، وتعمل بما وهبها الله من رحمة وسعة فكر وحب للخير. فهذه القلوب وحدها هي التي تثمر حياة صالحة وبيئة نقية طيبة يستفيد منها الإنسان وكل من حوله.

فلنستنر بنور تاريخنا الإسلامي المجيد! ولنقتدِ بسلفنا الصالح، الذين كانت رحمتهم تعم الأرض؛ فلا يمر طير عطشان إلا سقوه! ولنحرص - ولو بإناء ماء بسيط على الشرفة - على أن نزرع في قلوبنا بذور الرحمة، ونروي الأرض بقطرات الحنان التي تعود علينا جميعا بالأجر والبركة.
فالرحمة مفتاح كل خير، وإناء الماء الصغير على الشرفة رمزٌ لعظمة القلوب الكبيرة.
ودمتم في حفظ الله ورعايته.