لماذا لا يتكلم أهل التبليغ في الخلافيات؟
بعد مرور أكثر من (١٣٠٠) سنة من ظهور الإسلام، كان حال المسلمين لا يسر صديقا ولا يسوء عدوا، فقد فشت فيهم الفرقة والجهل والبدع والخرافات والتمزق والانحرافات الفكرية، وسيطر الاستعمار على معظم دول العالم الإسلامي، وجاء مع الاستعمار التغريب، والتشكيك في الاسلام، وبرز الإلحاد، والعلمانية والشيوعية، وانتشرت الأمية، وترك كثير من المسلمين أركان الإسلام العملية، وأصبح المسلمون فريسة للحروب الأهلية، والصراعات الحزبية، والنزاعات المذهبية، حتى قال بعض العلماء في تلك المرحلة عن حالة المسلمين (ليس لها من دون الله كاشفة) .
وعندما نهض الشيخ المجدد محمد إلياس بدعوته، التفت حوله ورأى تلك الأوضاع المؤلمة التي وصل إليها حال المسلمين، وعلم أنه أن بدأ دعوته فإنه سيواجهه المسلمون قبل الكفار، وذلك بسبب التعصب والجهل والتحيزات والتفرق، فقد كان الحال أشبه بقوله تعالى ( كل حزب بما لديهم فرحون)، فهذا ينتمي إلى الجماعة الصوفية الفلانية، وهذا ينتمي إلى طريقة صوفية أخرى، وهذا إلى ثالثة وهذا إلى رابعة وخامسة وعاشرة، وبين هذه الطرق من الخلاف والصراع ما لا يعلمه إلا الله وحده، وهذا ينتمي إلى السلفية، وهذا أشعري، وهذا ماتريدي، وهذا أباضي، وهذا زيدي، وهذا من أهل الحديث، وهذا من أهل الوجد، وهذا حنفي وهذا مالكي وهذا شافعي وهذا حنبلي، وهذا هادوي .. إلخ
كل هؤلاء كانوا منبثين في خارطة العالم الإسلامي، وجلهم متعصبون لمذاهبهم، ويرون أنها الحق الكامل الذي يعتبر من يخالفه محادا لله ورسوله....
كان الشيخ إلياس يدرك تلك الأوضاع، وكان همه مختلفا تماما عن وجهة أصحاب معظم تلك المذاهب والاتجاهات، كان يفكر في انتهاج خطة لإنقاذ المسلمين مما وصلوا إليه من البعد عن الإسلام، وعلم أن ذلك لن يحصل إلا بطريقين:
الأول: العودة بالمسلمين إلى مرحلة ما قبل ظهور الخلافات فيما بينهم، وهو العصر الإسلامي الأول.
الثاني: أن يقنع المسلمين بشتى طوائفهم أن يقوموا صفا واحدا لنصرة الإسلام والعودة به إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، وأن يستشعر كل مسلم مسؤوليته نحو (الدين) بعيداً عن مسؤوليته نحو جماعته وحزبه ومذهبه .
ولم يكن الوصول إلى هذا الهدف سهلا، فقد وجد الشيخ إلياس معارضة شديدة من العلماء وأصحاب النحل والمذاهب المختلفة، ولكنه مضى في طريقه غير عابيء بما يلاقي في سبيل الله من العنت والمعارضة والأذى، وعلم أن تحقيق هدفه لن يتحقق إلا برسم خطة إصلاحية واضحة المعالم، ينخرط فيها المسلمون ويقتنعون بها، يكون فيها إعزاز للإسلام والمسلمين.
فرسم الخطوط العامة لدعوته التي تتمثل في (الصفات الست) التي من الممكن أن يجتمع عليها المسلمون، وتنشرح لها صدور الأجيال القادمة من ناشئة المسلمين.
ثم وضع ترتيبات هذا العمل حتى ينطلق في طريقه بدون معوقات، وحتى لا يتفجر من داخله، ومن هذه التراتيب الابتعاد كليا عن ( الخلافيات) سواءً كانت خلافات فكرية أو عقدية أو مذهبية، لأن هذه الخلافيات مبنية في الغالب على التعصب والعداواة والبغضاء والشحناء، وتحول بين أصحابها وتحقيق الهدف الأسمى في نصرة الدين، فأراد الشيخ أن يترك المنخرطون في هذا العمل خلافاتهم ويتجهون إلى الهم الأكبر في الدعوة إلى الله، وإلى دينه وإصلاح قلوب المسلمين، وتطهيرها مما سوى الله وغرس أنوار (لا إله إلا الله) في القلوب، والتي بها تصلح الأعمال والأوطان، ويعود إلى المسلمين عزهم بتمسكهم بدينهم الحق، وتحصل لهم النجاة في الدنيا والآخرة، وبهذا الترتيب سوف تنشأ أجيال في الدعوة لا تعرف الخلافيات ولا المذهبيات، ولكنها تعرف طريق الدعوة إلى الله والحب في الله والتضحية في سبيل الله.
وأساس ذلك كله يقوم على ( الخروج في سبيل الله) وهذا الخروج هو السبيل إلى تحقيق مقصد الجماعة، فهو خروج من البيئة الفاسدة إلى البيئة الصالحة، والخروج من حظوظ النفس إلى مرضاة الله، والخروج من ضيق المذهب والجماعة والفرقة والطريقة إلى رحاب الإسلام الواسع، والخروج من الهموم الصغيرة إلى الهم الأكبر، وفي الخروج تجد إخوانك المسلمين من كل دولة ومن كل مذهب ومن كل طائفة يصفون صفا واحداً ليس لهم هم ولا مزاج إلا الدعوة إلى الله وحده، ونصرة الدين والقيام بأعمال الجهد، والانشغال بتحقيق المنهج النبوي، ومحاولة تتبع حياة الصحابة في تطبيقاتهم للدين والتأسي بهم، في سيرهم إلى الله، وتضحياتهم في سبيل الله تعالى.
ولهذا فإن ما يمكن أن يفسد هذه الدعوة العظيمة ويمزقها ويفجرها من داخلها وجود دعاة داخلها لا يفهمون ترتيبها، ولا يعون مقاصدها، ويستخدمونها لنشر فكرهم أو مذهبهم غير مبالين بأصول هذا الجهد، ولا يثمنون تضحيات المؤسسين اللذين أوصلوه إلى كل بقاع الدنيا، فإن هؤلاء المنتمين المتعصبين عندهم استعداد أن يهدموا ما بني خلال مئة سنة في سنة أو سنتين.
التبليغي الحقيقي هو من فهم أصول الدعوة وترتيباتها وتفصيلانها، وانخرط فيها بوعي وإخلاص وتضحية، وقد تحرر قلبه من أي مزاج غير مزاج الدعوة إلى الله تعالى.
إن هذه الدعوة تقوم على الفهم الفهم الفهم.