كيف غادرنا الدولة إلى"الدويلة" ؟ ومن الذي جرّنا من ساحتها؟
نسجوا حولها الأزمات كما تُنسَج الخيوط السوداء على كفن الحلم، وتركوا شعبها يتأرجح بين جوعٍ لا يرحم، وخوفٍ لا يهدأ فلا كهرباء تُنير العيون،ولا رواتب تُنقذ الجيوب،وكل يدٍ امتدت لتمسح جراحها، كانت تُخفي في أطرافها نصلًا، وكل وعدٍ بالإنقاذ كان يحمل بين سطوره موعدًا مؤجلًا لخنقٍ جديد ولم تأتِ الأيادي بيضاء، بل ملطخة بالمصالح، مشروطة بالولاء، ومغمّسة في صفقات لا يرى فيها أبناء شعبنا سوى الفتات تلك الأيادي التي وُعِدوا بها بحياة كريمة، لم تجلب سوى المزيد من الجراح والخيبة، لهذا الوطن الذي ينتظر بلا جدوى، بين وعودٍ تتكرر وكوابيس تُعاد،تُحاك في الخفاء على حساب أحلام ومستقبل أبناء شعبنا.
فمن أين تبدأ الحكاية؟من أولئك الذين فرطوا في وطننا وصادروا مؤسساته وحولوها إلى مزارع خاصة؟تدار عن بُعد، محكومه برغبات "الشلّة"، وأمزجتها ومخاوفها من أولئك الذين يقفون في الخلف، يشيرون بأصابعهم فيُطاعون، بينما ينهشون من جسد هذا الوطن بكل برود؟ كيف يمكن للإنسان أن يحتفظ بإنسانيته وسط هذا المشهد الجاف، القاسي، المخيف؟يا لهذا الوطن الذي صار جثّة!يا لهذه الأرض التي بكت على أبنائها، لا لأنهم فقراء، بل لأنهم نسوا كيف يرفضون!كيف وصلنا إلى هذه الهاوية؟كيف غادرنا الدولة إلى "الدويلة"؟من الذي جرّنا من ساحة الدولة إلى حظيرة الولاء؟وأين أولئك الذين كانوا يعدوننا بالنهضة؟كلهم تبخروا خلف جدران المصالح.
الجميع في وطني يتحدث باسم الشعب ولكنهم يسرقون أرزاقه ويُصادر كرامته،ويُقصون كل من لا ينتمي لقطيعهم بينما هم،في عمق المشهد، يبيعون الوطن مترًا مترًا للمتربصين ويكفي أن تنتمي إليهم أو توهمهم بذلك حتى تُفتح أمامك الأبواب المغلقة، ويُعاد تشكيل الواقع حولك لتبدو أنت الوحيد الذي يستحق. أما الآخرون، فمصيرهم التيه على هوامش الدولة، مطرودين من مساحات القرار، مدفوعين قسراً إلى الغربة أو العطالة أو الانكسار ولهذا تحوّلت الدولة من بناءٍ تشاركي إلى مأدبةٍ حصرية،مقاعدها محفوظةٌ بأسماءٍ لا تتغير.تُدار بتطبيقات الهواتف و"الرسائل المشفّرة" لا بالدستور أو المؤسسات.
وأخيراً صار العدل في بلادنا حكاية تُروى، لا واقعاً يُعاش.وصارت المناصب تشترى بالفلوس أو القرابه،لا بالكفاءة أو الوطنية حتى صار العالِم غريباً في بلاده، والجاهل أميراً في بلاط القرار، والمواطن الصالح مهمشاً في قارعة الانتظار.وكم من أستاذ جامعي، مرّ من جوار وزارة يديرها شخص بالكاد يعرف كتابة اسمه، وابتلع غصته حتى لا يصرخ؟ كم من طبيبٍ نزف جهده بين المستشفيات الحكومية، ثم رأى بعينه كيف تُعطى المناصب في القطاع الصحي لأقارب هذا المسؤول أو ذاك؟ كم من فنانٍ حاول أن يُغني لبلادنا، فاتهموه بالجنون أو بالسعي إلى "الشهرة على حساب الوطن" يا هؤلاء نحن لا نريد أكثر من الحياة، لا نريد أكثر من دولةٍ لا تحكمها "الشلة"،ولا تتحكم فيها أهواء من جاءوا من خلف الكواليس. نريد دولةً تحترمنا كمواطنين، لا كأتباع، ولا كأرقام تُستخدم في نشرات الأخبار. نريد عدالة، لا انتقائية في الحقوق، ولا توظيفاً للعدالة لتصفية الحسابات. نريد مؤسسات حقيقية،لا ديكوراً هشاً يتحطم عند أول اختبار.