إعلام للبيع!

في زمن انفجرت فيه وسائل الإعلام، وتعددت المنابر، وتطورت المنصات؛ لم نعد نبحث عن المعلومة فحسب؛ بل بتنا نبحث عن الحقيقة وسط ركام هائل من التزييف.

ولم تعد المعضلة في "الخبر الكاذب" فقط؛ بل في النية المبيّتة لتوجيه العقول، وخدمة المصالح، وتزيين الباطل، وتشويه الحق، وكل ذلك ربما يتم على الهواء مباشرة، وبلغة جذابة، وإخراج احترافي! بلا ضمير.

كثير من الإعلاميين – للأسف – تحولوا من رسل للوعي، إلى سماسرة كلمات؛ فمن يدفع لهم؛ مجّدوه، وألبسوه ثوب البطولة، ولو كان من أفشل وأفسد المسؤولين. ومن لم يدفع؛ شنوا عليه الحملات، ولو كان أنظف الناس يدا وأصدقهم عملا.

لقد أصبحت الكلمة – التي كان يفترض أن تكون أمانة – أداة للابتزاز؛ بل وسلاحا يُستخدم لتصفية الحسابات، وتأجيج الأزمات، وتزوير الوعي العام.

الكلمة ليست مجرد حروف تُقال ثم تُنسى. الكلمة موقف، الكلمة أثر، الكلمة قد تُحيي أمة أو تُميتها، قد تنقذ بريئا أو تقتله معنويا، قد تُشعل فتنة أو تطفئ نارها. وقد قال نبي الرحمة ﷺ: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله؛ لا يُلقي لها بالا، يرفعه الله بها درجات. وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يُلقي لها بالا، يهوي بها في جهنم».

فهل يُدرك الإعلامي حين يكتب تقريرا أو يُعد برنامجا أو يُجري مقابلة، أن عليه رقابة ربانية قبل رقابة القناة أو المتابعين؟

حين يُمارس الإعلام التضليل؛ تُصبح المجتمعات فريسة للجهل! يُمجَّد الفاسد، ويُخوَّن المصلح، وتضيع البوصلة، ويعلو الضجيج على صوت العقل.

إننا اليوم لا نعاني من نقص في القنوات؛ بل من نقص في الصدق. لا نبحث عن وجوه جديدة على الشاشة؛ بل عن ضمائر يقظة وراء الكواليس.

والأسوأ من كل ذلك، أن هذا الإعلام المأجور لا يُدرك أنه يعيد إنتاج تجربة الأحبار الذين وصفهم الله بقوله: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ﴾؛ فما الفرق بين من كان يبيع الفتوى، ومن يبيع الخبر؟ أليس الاثنان سواء في خيانة الكلمة وتضليل الناس؟

ورغم كل هذا الظلام؛ لا يزال في المهنة شرفاء! إعلاميون يحملون همَّ الحقيقة، ويرفضون بيع ضمائرهم، ويقولون الكلمة الصادقة، ولو كلفهم ذلك وظائفهم أو أمنهم أو حياتهم.

هؤلاء هم الذين نُعلّق عليهم الأمل، وهم الذين يُربّون الأجيال على الحرية؛ لا التبعية، على التثبت؛ لا التسرع، على المحبة؛ لا التحريض؛ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾. وقال النبي ﷺ: «أفضل الجهاد: كلمة حق عند سلطان جائر»؛ فهل تكون أنت – أيها الإعلامي – من هؤلاء؟

أنت لست مجرد ناقلٍ للحدث، أنت صاحب موقف. أنت لا تكتب لتملأ مساحة فارغة؛ بل لتزرع فكرة؛ لتبني وعياً، لتنهض بوطن.

فاختر طريقك؛ إما أن تكون بوقا مأجورا لا يرى من الدنيا؛ إلا رصيد الحساب البنكي، وإما أن تكون ضميرا حيا، ولسان صدق، ومنارة وعي في زمن التزييف.

وفق الله الجميع! ودمتم سالمين!