حين تتشظى الانتماءات الوطنية

الأخطبوط من الكائنات البحرية الرخوة، له ثمانية أذرع، يمدّ كل ذراع باتجاه، وربما لهذا السبب خطر ببالي أن أشبّه نزاعات الهوية به. فالنزاع حول الهوية لا ينفصل عن أذرع الكراهية، والتحزّب، والانقسام، والعصبية، والطائفية، والمناطقية… إلى آخره. كلها أذرع لذلك الأخطبوط الذي يخنق الوطن، ويجرّه إلى مستنقعات الصراع الدائم.

اليوم، حين نتحدث عن نزاعات الهوية، فإننا لا نقف أمام صراع سياسي فقط، بل أمام صراع يحمل في داخله تراكمات من الفتن، والتنازع على الانتماء، ومآسي الإعلام الموجَّه الذي يغذي الكراهية بين الأفراد والجماعات. هذا ليس مجرد افتراض، بل واقع نراه في الجنوب ، حيث نعيش منذ سنوات مرارة الانقسام والاقتتال، ونشهد صعود الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية.

أحد أبرز هذه الهويات الفرعية هي الهوية المناطقية، وهي أشبه بذراع قاتلة من أذرع الأخطبوط، ظهرت بوضوح بعد حرب 2015، وتمثّلت في صور من التمييز والإقصاء والتحريض بين أبناء الوطن الواحد. بعض من يبرر هذا النوع من الهوية يظنه تعبيرًا عن انتماء، ولكنه في الحقيقة انحدار إلى قاع لا يمت للدين، ولا للأخلاق، ولا للمواطنة بصلة.

الهوية المناطقية، كما نراها اليوم، لا تملك مشروعًا، ولا تحمل وعيًا، بل تسير بدوافع نفسية مشوهة، تتغذى على الأحقاد، وتعيش على معاناة الآخرين، وتمارس الإقصاء الممنهج. هي هوية خاوية، لا تفرق بين الإنسان والموقع، بين الكفاءة والانتماء.

المفكر السياسي “صامويل هنتنغتون” في كتابه صراع الحضارات، أشار إلى أن الهويات الإثنية والدينية تحتاج إلى “عدو” لكي تتماسك. وهذه فكرة يمكن تطبيقها على واقعنا، حيث يبدو أن بعض الهويات لا تتشكل إلا من خلال نفي الآخر، ومعاداته.

لكننا بحاجة إلى فهم أعمق لمعنى الهوية. فالهويّة في جوهرها ليست سجنًا أو أداة إقصاء، بل هي منظومة من السمات الثقافية والاجتماعية والدينية والسياسية التي تميز جماعة ما، وتمنح الفرد إحساسًا بالانتماء. والهوية بطبيعتها ديناميكية، تتغير وتتطور، ولا يجب أن تكون قيدًا على التطور أو مدخلاً للفرقة.

الهوية الوطنية هي الملاذ الأخير. إنها القاسم المشترك الذي يجب أن نلجأ إليه جميعًا، بعيدًا عن التقسيم المناطقي والطائفي. علينا أن نغرس ثقافة الانتماء للوطن، أن نعزز الوعي بأن اختلاف المناطق والثقافات داخل الوطن الواحد هو مصدر غنى لا سبب شقاق.

ما نراه اليوم في عدن، وفي غيرها من المدن اليمنية، ليس إلا مظهرًا من مظاهر انفلات الهوية الوطنية، لحساب هويات ضيقة تفتك بوطننا منذ سبع سنوات. وآن الأوان أن نقول: كفى. كفى تشرذمًا، وكفى تشظيًا. لا بد أن نجسد هوية واحدة، هوية يمنية تتسع للجميع، وتتجاوز كل الأذرع القاتلة التي يمدها أخطبوط الكراهية.